أركز فى هذا المقال على المشهد الأول فى كارثة «سد النهضة» وما أفضت إليه من أزمة شديدة تتعلق بالمصلحة الحيوية الأولى لمصر بعد الدفاع عن حدودها وكيانها، ذلك لأن المشهد الأول يكون شديد الدلالة على مدى الكفاءة فى إدارة الأزمة وما يرتبط بذلك من حكم على الطريقة التى تُدار بها مصر ويصنع القرار فيها.
وليس معنى هذا أن المشاهد التالية قليلة الأهمية، فهى على الأقل مؤشر مهم على مدى القدرة على التعلم أثناء إدارة الأزمة. تبدأ القصة بالنبأ الذى حملته الصحف فى 29 مايو الماضى بخصوص شروع إثيوبيا فى تحويل مجرى النيل الأزرق كخطوة ضرورية فى عملية بناء «سد النهضة»، وقد بدا من خلال وسائل الإعلام عامة وتصريحات عدد من المسئولين وكأن الأمر انطوى على «مفاجأة»، وعنصر المفاجأة فى الأزمات مهم، لأنه يقلل الوقت المتاح لاتخاذ القرار، وهو قليل أصلا، بينما التنبؤ بالأزمات يزيد من هذا الوقت بما يساعد على رشادة القرار المتخذ، فهل كان فى الموضوع مفاجأة أصلا؟
الإجابة هى النفى بالتأكيد، إذ إن تفكير إثيوبيا فى مشروعات مائية على نهر النيل قديم، وفى الحقبة المعاصرة تكفى الإشارة إلى تلميح الرئيس أنور السادات باستخدام القوة ضد أى مشروعات من شأنها الإضرار بحصة مصر فى مياه النيل، وبالنسبة «لسد النهضة» فالحديث عنه متواتر منذ ثلاث سنوات على الأقل، فضلا عن أن هناك لجنة ثلاثية من مصر والسودان وإثيوبيا مشكلة من أكثر من عام لدراسة الموضوع وتقديم تقرير عنه، ناهيك عما يفترض أن الوجود الدبلوماسى والمخابراتى المصرى فى إثيوبيا يزود به مراكز صنع القرار فى مصر.
يؤكد هذا ما صرح به مساعد وزير الخارجية للشئون الأفريقية من أن قرار الحكومة الإثيوبية ليس مفاجئا مؤكدا أن القاهرة كانت على علم به منذ مدة، كذلك صرح السفير المصرى بإثيوبيا بأن القرار ليس مفاجئا، فقد تم اتخاذه فى شهر نوفمبر الماضى، وكان مفترضا أن تعكف الدوائر المسئولة على دراسة الموضوع من كافة جوانبه والتنبؤ بإمكان حدوث أزمات بشأنه، وكيف يكون التصرف إذا وقعت، غير أن كل ما حدث بعد الثورة هو إرسال وفد دبلوماسى شعبى لم تُتابع نتائج ما حققه، وكل ما حدث بعد عودة الوفد كان زيارات ولقاءات دبلوماسية عادية وحديث عام عن تطوير العلاقات.
●●●
ترتب على كل ما سبق أن تعليق الرئاسة على خبر تحويل مجرى النيل الأزرق كان غير مقبول، فقد وصف الناطق باسم الرئاسة قرار هذا التحويل بأنه لن يكون ذا تأثير سلبى على كميات المياه التى تصل إلى مصر، وأن مصر تنظر إليه باعتباره إجراء طبيعيا (دون أن يأتى على ذكر تأثيره على توليد الكهرباء من السد العالى). والمهم أنه قال إن مصر سوف تعلن موقفها بعد صدور تقرير اللجنة الثلاثية، فما جدوى ما قاله إذن؟ وهل يعنى أن الرئاسة من خلال المؤسسات المصرية المعنية والخبراء المختصين ليس لديها أى معلومات عن السد بدليل أنها تنتظر صدور تقرير اللجنة؟
يثير هذا قضية مهمة تتعلق بصنع القرار فى مصر، والأصل فى أبجديات عملية صنع القرار أنها تبدأ «بتحديد الموقف»، وذلك بجمع أقصى ما يمكن من معلومات دقيقة حوله حتى يأتى القرار فى الاتجاه السليم، لكن الرئاسة فى حالتنا هذه اتخذت موقفا ثم أشارت إلى أنها بانتظار تقرير اللجنة الثلاثية لتحدد موقفها، وهو وضع مقلوب.
ولنقارن هذا بموقف عبدالناصر فى تأميم قناة السويس ردا على سحب الولايات المتحدة عرضها تمويل السد العالى فى 16/7/1956، ويلاحظ هنا أنه لم يتخذ موقفا فوريا مما جرى، بل إن خطابه فى عيد الثورة فى 23 يوليو جاء عاما مع أن أسبوعا كان قد انقضى على القرار الأمريكى، ويرجع هذا التأجيل إلى أنه كان يجمع معلومات عن الموقف من منظورين بعد أن استقر رأيه على أن أفضل رد هو تأميم القناة الحلم الوطنى المصرى الذى كان قد استعد له «مسبقا» بالبحث والدراسة.
المنظور الأول هو مدى قدرة بريطانيا وفرنسا على الرد العسكرى الفورى على قرار التأميم، والثانى هو مدى قدرة مصر على إدارة القناة، وعندما وصلته المعلومات من المخابرات المصرية بأن بريطانيا وفرنسا ليس فى مقدورهما القيام بعمل عسكرى ضد مصر قبل ثلاثة شهور من إعلان قرار التأميم وبأن المجموعة المصرية التى اختارها لإدارة القناة قادرة على ذلك اعتبر هذا كافيا لاتخاذ قراره وأعلنه فى خطابه السنوى فى مدينة الإسكندرية فى 26/7/1956 ليكون واحدا من أعظم قراراته إن لم يكن أعظمها، وكان القرار علامة فارقة فى تاريخ حركات التحرر الوطنى وانتزاع الاستقلال الاقتصادى فى الوطن العربى وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
●●●
هكذا يكون اتخاذ القرار، بينما فى حالتنا ساد الاستخفاف واللامبالاة ردود الفعل الرسمية الأولى، ولم تشعر الرئاسة والحكومة بأنها يجب أن تتشدد فى تصريحاتها وتتحرك لمواجهة الأزمة إلا عندما أجمع الخبراء على الآثار الكارثية «لسد النهضة» سواء على تدفق المياه إلى مصر أو توليد الكهرباء فيها.
لكن السياسة غابت والتحركات بدت وكأنها فى المكان، وساعد هذا على ظهور العديد من المقترحات غير الرسمية للمواجهة بعضها جاد ونافع والبعض الآخر يثير الرثاء ويضيع ما بنته مصر فى عقود من مكانة فى أفريقيا، وهذا ينقلنا إلى المشهد الثانى للكارثة، وهو ما يضيق به الحيز المسموح فإلى مقالة أخرى بإذن الله.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
ومدير معهد البحوث والدراسات العربية