مصر بين القنادس - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:03 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر بين القنادس

نشر فى : الخميس 6 يونيو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 6 يونيو 2013 - 8:00 ص

تابعت ما أذيع من لقاء الرئيس مرسى مع بعض ممثلى «القوى السياسية» نهار الاثنين الماضى بشأن سد النهضة الإثيوبى وتأثيراته المحتملة على حصة مصر من المياه ولفت نظرى أن الرئيس المصرى كان مبتهجا وهو يستعرض ما لديه من معلومات عن السد لم تكن أبدا مطمئنة أو تدعو إلى البهجة، وهذا التناقض بين ما يُقال والعواطف المصاحبة لقوله يثير ريبة بديهيات القراءة النفسية لما وراء الظاهر، وهى ريبة أخذت تتجسم فى أعقاب ما تلى ذلك اللقاء مباشرة، فقد انفجر ضجيج التليفزيون الحكومى بالأناشيد والأغنيات الوطنية وكأننا حققنا نصرا فى معركة تاريخية، على غرار ما حدث فى أعقاب مشهد استقبال الجنود المختطفين بينما خاطفوهم طلقاء! وبعد أن كنت أحسب فى اعتذار بعض ممثلى القوى السياسية عن حضور ذلك اللقاء نوعا من التزيُّد والخروج عن الإجماع الواجب فى اللحظة الوطنية الحرجة، تبدَّل يقينى، لأن هذا الطرب الراشح من بهجة الرئيس ودغدغات بعض الحاضرين وهرتلات أكثرهم، ثم زيطة الأغانى والأناشيد الوطنية كأننا انتصرنا فى معركة كبرى، وأيضا ترك اللقاء لتديره سيدة باهتة القدرات لا أعرف سر معجزة وجودها الراسخ فيما تشغله من موقع مهم، أيقنت أننا نعيش كارثة قائمة وقادمة، وأقرب ما تبادر إلى ذهنى من تشبيه يليق بهذا المأزق ما بين تهديد السد الأثيوبى وإدارة مصرية هذا شأنها، أن مصر مُحاصَرة بين فريقين من القنادس، قنادس فى أثيوبيا، وقنادس فى مصر.

 

والقنادس مفردها قندس، وهو قارض مائى شمالى يلقب بأنه أمهر بناة السدود من غير البشر، يشبه أرنبا بريا ضخما وذيله مثل مضرب «راكت» كبير مرن، وهو يعيش معظم حياته فى الماء حيث يسبح بسرعة ومهارة شديدين يفوقان قدراته فى المشى على البر.

 

تعود شهرة القندس فى بناء السدود إلى سلوك فائق الغرابة يجعله يقطع بأسنانه الحادة جذوع وأغصان أشجار الغابات المحيطة بالأنهر والبحيرات الشمالية التى يعيش فيها، ثم يسحبها بأسنانه من البر إلى الماء بعد تقطيعها إلى أجزاء مناسبة الأطوال تتراوح بين متر ومترين، وبأسلوب هندسى أريب يرصها فى شكل سد يعترض مجرى الماء، وفى حِمى هذا السد يقوم ببناء بيته الذى يصل إليه عبر طريقٍ سرِّيٍ بالغ التضليل والخداع.

 

 يبنى القندس بيته بمدخل تحت الماء عبارة عن خندق مراوغ يمتد لعشرة أمتار أو أكثر يحفره بمخالبه فى طين القاع، ويُفضى هذا الخندق إلى نهاية صاعدة تفتح على كوخ يتسع لأسرة القندس المكونة من الأب والأم وصغيرين أو ثلاثة، وهو كوخ طافٍ فوق الماء مكون من أغصان الشجر المصفوفة بدقة هندسية ملفتة يغطيها بطبقة طينية محكمة، ولا ينسى القندس وهو يبنى هذا الكوخ أن يترك فتحة صغيرة فى قمته للتهوية!

 

حيوان القندس يبنى باستماتة سده الخاص وبيته المحمى بهذا السد والأنفاق السرية التى تُفضى إليه لأنه فى بيئة يكثر فيها مفترسوه من دببة وثعالب وذئاب ثلوج وكلاب بحر مسعورة، فهو مضطر لبناء كل هذه التحصينات حول نفسه وأسرته للحماية، وطبيعى وهذا حاله ألا يفكر فى الأضرار التى يسببها للبيئة من حوله، الغابة التى يدمر أشجارها بنهم يمكنه من إسقاط وتقطيع شجرة طولها عشرة أمتار وقطر جذعها ثلاثين سنتيمترا فى ليلتين، والنهر الذى يعيق سريان تياره بالسد الذى يبنيه بعرض المجرى، أو البحيرة التى يخنق ركنا من أركانها بمثل هذا السد.

 

حيوان القندس برغم الآثار الجانبية لسدوده وأكواخه على البيئة يظل محكوما بمعادلة التوازن الفطرى فى الطبيعة، لكن قنادس البشر الذين رأيتهم متجسدين فى سلوك بناة سد النهضة الأثيوبى، كما فى سلوك الإدارة الإخوانية فى الحكم لدينا، كلاهما قنادس بشرية غير محكومة بهذه المعادلة الضابطة للتوازن الفطرى، فهم يبالغون فى إنفاذ مطامحهم ومطامعهم بأنانية مفرطة، تصنع من حولها سدودا تحمى كياناتهم، وكياناتهم فقط، دون أى اكتراث بما يحيط بهم من جيران شركاء فى حوض النهر فى الحالة الأثيوبية، وشركاء فى الوطن فى الحالة الإخوانية. كيف؟

 

فى الحالة الأثيوبية لاشك ستكون للسد آثار سلبية على مصر، دولة المصب، على الأقل خلال الفترة المطلوب فيها امتلاء السد بـحوالى 75 مليار متر مكعب من المياه، كما أن التوازن البيئى حتما سيختل ولا أحد يعرف على وجه اليقين مدى وامتداد اختلاله، ومن غرائب الأمور أن المحرضين على بناء هذا السد من الغربيين والسائرين فى ركابهم، يرفعون فى بلدانهم شعار أن زمن الجراحات الكبرى فى جسد الطبيعة قد انتهى لثبوت سوء عواقبها، وأقلها فى حالة السدود الكبرى، والسد الإثيوبى من أكبرها، معادلة «املأ بحيرة السد بالماء تحصل على الزلازل»، وهى زلازل ليست جيولوجية فقط، بل بيئية واقتصادية، أخلاقية وسياسية، ونحن فى بؤرة تدميرها على أى نحو حسبت.

 

هذه الأنانية فى بناء سد بهذا الحجم الخطر على البيئة وعلينا، يتصادف أن تقابلها، لسوء الحظ، لدينا، جماعة أنانية أيضا لم تكف عن بناء سدود تمكينها من الانفراد بحكم لم تُثبت براعة فى إدارة دفته ولا تحريك مجاديفه، وبينما هى مندفعة فى تمتين سدود وأنفاق هذا التمكين، لا تكترث بما تُسقِط من مؤسسات وبما تسببه من تدمير فى التكوين التاريخى للأمة، وتتخذ فى هذا الاندفاع سُبلا وإجراءات باطلة يترتب عليها باطل فوق باطل، وتريد أن تحول كل هذا الباطل إلى حق بالعافية والتحايل وفرض الأمر الواقع، دستور باطل مطبوخ بتشكيل باطل، ومجلس شورى باطل انتخبته أقلية لا تمنحه أية شرعية أو حقا للتشريع، ومع ذلك يتمادى فى التشريع بما يُحكِم للجماعة سدودها وأنفاقها وأكواخ تخندقها على حساب بنيان عموم الأمة. فهل نثق فى أن سلوك قنادسنا هنا يمكن أن يكون رشيدا فى مواجهة سلوك قنادس تهددنا هناك؟

 

السد الأثيوبى قضية أمن قومى مصرى كبرى، بل قضية وجود يتم عرضها بخفة على الشاشات بانشراح طروب، وبمعلومات واضحة النقصان، مع مدعوين يبدر من بعضهم ترهات بالغة الخطورة فى معالجة شأن بالغ الخطر؟ ثم هذه الظيطة التليفزيونية الحكومية التى أعقبت الاجتماع الواضح من مجرياته وتوابعه أنه لم يكن إلا للتعبئة التى تغطى على جبل البطلان الذى تم افتضاحه قانونيا! «زفة» هزلية كذابة فى لحظة لا يجوز فيها الهزل أو الكذب.

 

والله إن قنادس الحيونات لا تهزل ولا تكذب وهى تبنى سدودها على حساب شجر الغابة وضد حرية سريان النهر، ولا تكذب أو تهزل وهى تحفر خنادقها تحت الماء فتربك أسماك القيعان، ولا تهزل أو تكذب وهى تقيم بينها وبين مفترسيها متاريس ومتاهات تحمى ضعفها. أما قنادس البشر لدينا فهم يهزلون ويكذبون بفجاجة وكأنهم وقعوا على أمة من البُلهاء، يدعون إلى التوافق فى مواجهة قَنْدَسة خارجية، بينما هم يهدمون كل توافق داخلى بقَنْدَسة شرهة وفظة تحت لواء «التمكين» الواضح والفاضح والمستمر. ولا خروج من هذا الهزل وذاك الكذب إلا بإعمال قاعدة «لن يصح إلا الصحيح»، والصحيح هو الرجوع عن كل الأباطيل التى ترتبت على أباطيل، لأن الاستفتاءات لا تُطهِّر باطلا قانونيا كما يقول أهل القانون الدستورى.

 

نعم التوافق الوطنى هو سبيل النجاة الوحيد والأكيد فى الملمات الكبرى التى نواجهها، لكن ليس بالقَنْدَسة البشرية الغشوم الكذوب يكون التوافق.

 

ملحوظة: القنادس على البر كثيرا ما تفاجئ البشر بهجمات وحشية غادرة، ودون أى تبرير إلا سوء ظنها بكل مُختلفٍ عنها!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .