العشة والبرج والبلطجى - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العشة والبرج والبلطجى

نشر فى : الإثنين 6 أغسطس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 6 أغسطس 2012 - 8:00 ص

الروح الوحيدة التى راحت فى الاشتباكات التى جرت حول أبراج نايل سيتى قبل أيام كانت لعمرو البنى، أحد سكان رملة بولاق المتهمين بالبلطجة وتلقى الإتاوات ومحاولة اقتحام فندق ومحاولة سرقة بنك وتهم أخرى. تغفل التغطية الاعلامية ورد الفعل الرسمى هذه الحقيقة البسيطة وهى تسرد لنا ساعات «الرعب» ويوميات «الانفلات الأمنى» والمعركة «المجيدة» مع البلطجية.

 

● ● ●

 

تظهر لنا بعض الفيديوهات رجالا، مسلحين بمسدساتهم، يواجهون صبية يرمون عليهم الحجارة. ويستغرقك الأمر لحظات قبل أن تدرك حقيقة أن من يرتدون البنطلونات البيضاء أمامك هم من رجال داخلية مصر، إذ أن أغلبهم خلع زيه الرسمى ليخوض المواجهة إما عاريا أو بالفانلات الداخلية دفاعا عن أحد «رموز العمران الحضري» وتبعات النمو الاقتصادى الذى يقوده القطاع الخاص الواقع فى قلب العشوائيات. يسارع المسئولون بالزيارة لتكريم رجال الأمن، والاطمئنان على الأوضاع. لا تلقى دهشور، التى شهدت أحداث عنف طائفية وحرق ونهب لمنازل أقباطها، أيا من هذا الاهتمام، ربما لأنها أقرب إلى رملة بولاق بمسلميها ومسيحييها، وليس فيها أى من رموز حضارتنا الشركاتية الزاهرة، ولا من هم مخاوفهم جديرة بالاهتمام.

 

معركة مع بلطجية يفرضون الإتاوات ويروعون الناس ويحطمون السيارات، ويجب وقفهم عند حدهم حتى لو اقتضى الأمر إطلاق النيران لحماية القانون. ما أشبه هذه الصورة بموقف حكومة ديفيد كاميرون فى بريطانيا من المواجهات التى شهدتها شوارع بعض مدن بريطانيا فى أغسطس ٢٠١١: «رعاع وحشيون يحطمون أنفسهم قبل المجتمع ويجب وقفهم”. غير أن هذه الصورة قاصرة ومنحازة بشكل هزلى..هناك وهنا. يركز أولو الأمر، ومعهم من يتمتعون بالاستثناء من حياة مطاريد دولة الشركات، وقد ارتاحت حياتهم على مرأى هؤلاء وكأنهم يحملون جينات الجنوح الوراثية فاستحقوا ما آلوا إليه، على مشهد السيارات المحروقة وقبلها المتاجر اللندنية المنهوبة والمشتعلة، ولا يروون لنا جانبا آخر من القصة، هو القصة أصلا.

 

هناك كان ما لا يرغب هؤلاء فى سماعه يتعلق بالطريقة التى دمرت بها خطط دولة الشركات التقشفية على الفقراء التوسعية للبنوك حياة هؤلاء المهمشين ونزعت منهم الوظائف ثم تقليص مساندة الدولة لصحة وتعليم أطفالهم. وفى بولاق، تستطيع أن تضيف لنفس العناصر الغائبة معركة عمرها سنوات بين المحافظة وبين سكان المنطقة وبعضهم من ملاك مساكنهم لإخلائها، لحساب توسع القطاع الخاص فى تطوير المنطقة واستغلالها، وفى طليعته الشركة المالكة للأبراج. كما تغيب أى إشارة لحريق فى بيوت سكان رملة بولاق بسبب الأبراج قبلها بأسابيع، يشك هؤلاء أنه كان متعمدا. الصورة إذا ليست بهذا التلخيص البسيط المخل الذى يتم حله بقبضة أمنية حازمة.

 

لكن هل لمشكلة نايل سيتى علاقة بالثورة كما رأى بعض النشطاء الذين هبّوا للتضامن مع السكان؟

 

● ● ●

 

مدن ثائرة

 

فى حوار مع الاقتصادى والجغرافى البريطانى ديفيد هارفى، نشرته مجلة بوسطن ريفيو فى مايو الماضى عن كتابه الصادر هذا العام بعنوان «مدن ثائرة، من الحق فى المدينة إلى الثورة الحضرية»، يتحدث أستاذ الأنثربولوجيا المرموق فى جامعة نيويورك عما يعنيه «الحق فى المدينة»: أننا جميعا وجماعيا لنا الحق فى الحياة فى المدينة وفى تشكيل تطورها وتنميتها.

 

لماذا نفكر فى هذا الموضوع من الأصل؟ لأنه أولا هناك الحق فى الحصول على الموارد التى لو تم تجميعها معا تشكل بيئة المدينة التى نعيش فيها، وهى سياسية واجتماعية ومادية. وبالتالى هناك السؤال عمن يحصل على هذه الموارد وهل هناك فرص متساوية فى ذلك. ثم هناك القضية التى تنبنى على هذا: من يملك الحق والقدرة على إعادة تشكيل المدينة والتحكم فى تخطيطها ومواردها وتغيير صورتها، والمصالح والثقافة التى تعكسها هذه الصورة الجديدة. «يحدد سؤال المدينة التى نرغب فيها قضية أى نوع من الناس نطمح أن نكون»، على حد تعبيره.

 

يتحدث كتاب هارفى عن المدينة كمركز للنشاط السياسي: مركز التراكم والنمو الرأسمالى النيوليبرالى الكاسح وفى الوقت نفسه الصراع على من يتحكم فى مواردها ومن يملى ويحدد نوعية وتنظيم حياتنا اليومية. هل هم رجال الأعمال وشركات التطوير العقارى المدفوعة بالأرباح أم الناس واحتياجاتهم وثقافتهم ورؤيتهم لأنفسهم؟ يضع «مدن ثائرة» المدينة فى قلب الصراع الاجتماعى والاقتصادى محللا مواقع تتراوح من القاهرة لمومباى لساوباولو ونيويورك، ومتسائلا عن طرق لكى تحرر المدينة نفسها من الشركات المحتلة، وتعيد تنظيم نفسها بطريقة عادلة اجتماعيا وعاقلة بيئيا.

 

● ● ●

 

من يحكم مدينتنا وحياتنا اليومية؟

 

شوارع ممتلئة بالسيارات، يركبها من يخترقون قانون المرور يوميا، ولا يؤرق ضمائرهم لحظة، رغم أن السير العكسى قد يتسبب فى فقدان الحياة. تلوث وكتل إسمنتية، غياب للخضرة، لا ملاعب، ولا أرصفة للمشاة، وساعات كى تصل من منطقة لأخرى وبلا أسباب واضحة أحيانا غير فوضى تبدو قدرا. من خطط لذلك؟ ومن المستفيد؟ مدينتنا ساحة مفتوحة للتطوير العقارى وسوق مفتوحة للاستهلاك بلا قيود. هذا ما يخلق الطلب والربح ومن ثم الوظائف والتنمية، ُيقال لنا. لكن هناك وجها آخر.

 

يحدثنا تقرير «حالة مدن العالم ٢٠١٠/٢٠١١» عن حدود غير مرئية فى أغلب مدن العالم وعلى رأسها القاهرة. تفصل هذه الحدود بين عالمين بينهما عدم مساواة فى الدخل وفى فرص المستقبل وفى مساحة السكن فى فضاء العيش؛ انقسام حاد فى فرص الصحة، فى احتمالات الجوع وفى التعليم.

 

● ● ●

 

تنتمى رملة بولاق، إلى عالم القاهرة التى نراها ولا نراها. عالم العشوائيات، التى يسكنها ما يقدر بـ١٦ مليون نسمة فى ١٢٠٠ منطقة عبر مدن مصر، منها ٨١ فى العاصمة. يشير التقرير إلى بعض التحسن فى عدد من يعيشون بدون ملجأ فى مصر. لكن الحال عموما يبقى أن السكان على الجانب الآخر من حدود المدينة يعيشون فى فقر مدقع، و»تنتشر بينهم أمراض الربو والحساسية والفسل الكلوى بسبب تفشى مشكلات الصرف الصحى وعدم وجود مياه صالحة للشرب». نسب الأمية هناك تصل إلى ٨٠٪ من الذكور، و٩٥٪ من الإناث. وتشير الدراسات إلى أن ٨١٪ من سكان العشوائيات يعملون بالقطاع غير الرسمى، وأكثر من خمس رجالها عاطلون.

 

سكان رملة بولاق، من ملاك مساكنهم، نظموا أنفسهم فى معركة قانونية فى المحاكم دفاعا عن بيوتهم (هنا يمكن تجاوز القانون الذى يحمى الملكية الخاصة إذا وقف فى سكة دولة الشركات ودون مشكلة)، وفى حركة مجتمعية فعالة دفاعا عما يمكن تعريفه بحقهم فى المدينة. هل يمكن فصل هذا عن أهداف الثورة فى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية؟ هل يمكن فهم هؤلاء، أو معركة قرية أبو سليم ببنى سويف من أجل مياه الشرب، أو صفط اللبن من أجل النور، بمعزل عن البلطجى الأكبر فى حياتنا: دولة الشركات التى تحتكر أكلنا وشربنا ورسائلنا النصية والمسلسلات التى تسلينا ومباريات الكرة التى نحبها، وتصيغها على طريقتها ولحسابها، وتنبرى الداخلية، المضربة منذ الثورة، بالفانلات الداخلية وبدونها، للدفاع عن أبراجها رمز سطوتها.

 

راح مبارك. لكن مدينة المباركية القبيحة مازالت تحدد لنا جميعا كيف نعيش وفق صيغة تأتى المبانى والأرباح فيها قبل البشر. هذه هى البلطجة التى آن أوان مواجهتها.

 

المصريون قبل المبانى يا سادة.

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات