بعد أيام قليلة من انطلاق العملية «نسر» التى قصد بها أن تضع نهاية لبؤر الإرهاب فى سيناء بعد مذبحة رفح التى راح ضحيتها ستة عشر جنديا مصريا بدأ القلق يساورنى بشأن ما يجرى فى سيناء. دفعنى هذا إلى متابعة التفاصيل فزاد قلقى. وثمة ملاحظات عديدة تفسر هذا القلق تخيرت منها ثلاثا. لاحظت أولا أن العملية «نسر» تدخل فى باب «الحروب غير متماثلة الأطراف»، بمعنى أنها تدور بين طرفين، أحدهما جيش نظامى، والثانى عصابات متحركة تضرب وتهرب، ولا يهمها اكتساب أرض والسيطرة عليها بقدر ما يهمها استنزاف الخصم، ولذلك تكون أكثر خفة فى الحركة من الجيوش النظامية، ويفسر هذا انتصار حركات التحرر الوطنى التى تتبع أسلوب «حرب العصابات» على قوى استعمارية عتيدة، وعادة ما تطول هذه الحروب، وتدخل أحيانا فى مرحلة «تجمد» بمعنى أن يكون أى من طرفيها غير قادر على إحراز نصر حاسم على الآخر اللهم إلا بتكلفة مادية وبشرية هائلة قد لا يكون كلاهما قادرا عليها ماديا وسياسيا، ولذلك فإن حل المشكلات من هذا النوع لا يمكن أن يكون عسكريا فقط، ومن الأمور الطيبة أن القيادات العسكرية المصرية واعية بهذا، وقد صرح القائد العام للقوات المسلحة بأن الحل الأمثل هو التنمية وليس السلاح، لكن التنمية وثمارها ليست قريبة، بينما الإرهاب على الأبواب، ولذلك لا مفر فى المدى القصير من الاعتماد على القوة المسلحة وحدها، ولا مهرب من عمليات مضادة يقوم بها الإرهابيون ضد قوات الجيش والشرطة صحيح أنها غير مؤثرة حتى الآن لكن دلالاتها خطيرة.
زاد من قلقى ما تأكدت منه عبر تصريحات رسمية من أن «نسر» تتم بدون قاعدة معلومات كافية. يتضح هذا من تصريح مصدر أمنى فى 21/8 بأن العملية «نسر» تحكمها خطط قائمة على معلومات، وأن قاعدة البيانات يتم تحديثها على مدى الساعة (!) (وهو ما يعنى أن ما هو موجود منها غير كاف وربما غير دقيق) عبر عمليات التحقيق والاستطلاع وتعاون أبناء سيناء «المخلصين». وقد ذكرت صحيفة «ها آرتس» الإسرائيلية ــ وهى ليست حجة علينا ــ أن العامل الرئيس الذى يعوق تقدم الجيش المصرى هو نقص المعلومات الاستخبارية الدقيقة بفعل العلاقة التى نشأت بين العناصر الإرهابية وبعض القبائل. وقد ترتب على نقص المعلومات تضارب لا يليق فى البيانات الخاصة بالعملية واكتفى بمثالين أحدهما عن «جبل الحلال» الذى ذكرت المصرى اليوم بتاريخ 11/8 أن الجيش المصرى بدأ مساء 9/8 هجومه الكبير عليه لنقرأ فى 25/8 تصريحا لعضو بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة يقول فيه إن قوات الجيش والشرطة تحاصر «جبل الحلال»، لكنها لم تقتحمه بالقوات البرية انتظارا لجمع معلومات كافية عن المتحصنين فيه وقوة تسليحهم (وهو ما يؤكد أيضا ما سبق ذكره عن نقص المعلومات)، فهل نحزن على أجهزة تم تفكيكها عمدا؟ أم نسخط على الذين اتبعوا فى هذه الأجهزة أساليب حمقاء وغبية فى التعامل مع أهل سيناء؟ أما المثال الثانى فهو عن نتائج العملية، فثمة تباين فى المصادر المختلفة بين أعداد القتلى والمصابين والمقبوض عليهم من الإرهابيين، وهناك تضارب هائل فى عدد الأنفاق التى دمرت ما بين اثنى عشر نفقا فى أحد المصادر ومائة وخمسين فى آخر، وعموما كانت صحيفة «الأخبار» قد ذكرت أن الأنفاق قد عادت إلى الازدهار بعد الضربات التى وجهت لها، ويلاحظ عموما أن النتائج الأكيدة تبدو هزيلة نوعا، وأن القيادة العامة للقوات المسلحة أو القيادة الميدانية لا تصدر بيانات منتظمة عن العمليات العسكرية فى سيناء ونتائجها بما يقضى على هذا التضارب.
●●●
أفردت ملاحظتى الثانية «لجهود الحل السياسى» الذى سبقت الإشارة إلى أهميته، غير أنها أضافت المزيد إلى عوامل قلقى، فقد ذكرت الصحف أن وفدا من «مشايخ الرئاسة» قد وصل إلى سيناء يوم 25/8، والسبب فى هذا الوصف أن سيارات الرئاسة هى التى حملتهم إلى حيث أرادوا، وهو ما يعنى رضاها عن المهمة، وقد اجتمع هذا الوفد برموز الجماعة السلفية فى الشيخ زويد وقيل إن الزيارة تمهيد لأخرى الهدف منها تصحيح المفاهيم، وتدعيم خط الاعتدال، وتقصى الحقائق، ونقل مطالب أهل سيناء إلى مؤسسة الرئاسة، وهذا جيد. أضاف أحد أعضاء الوفد هدفا آخر هو احتواء الاحتقان بين أبناء السلفية الجهادية فى سيناء بعد تعرضهم لانتهاكات أمنية، والقبض على كثير منهم دون وجه حق. غير أن «المصرى اليوم» تحدثت عن صفقة يتم بموجبها وقف العمليات الإرهابية ضد الجيش لمدة أسبوع مقابل الإفراج عن السجناء وإيقاف العملية «نسر». وليس بمقدورى أن أؤكد على نحو قاطع هذه الأنباء، غير أن المرء يجب أن يتحسب لها وكأنها حقيقة، والسبب فى هذا هو الغياب التام للشفافية فى كل ما يجرى، ولو صحت أنباء هذه الصفقة لكنا أمام مشروع كارثة، لأن الصفقة تعنى حلا وسطا، والحل الوسط يعنى أن الإرهابيين قادرون على فرض شروطهم ولو جزئيا، وهذا يعنى أننا قد نشهد هدوءا على المدى القصير لنفاجأ بعد سنوات بتغول المنظمات الإرهابية، وأن الكلمة العليا فى سيناء صارت لها.
●●●
ملاحظتى الثالثة والأخيرة أن إسرائيل قد «دخلت على الخط» بصراخ وعويل حول انهاء مصر معاهدة السلام بإدخالها أسلحة ثقيلة إلى مناطق يمتنع عليها ذلك بموجب المعاهدة، مع أن إسرائيل تعلم جيدا أن القيادة العسكرية المصرية نسقت معها كل ما يتعلق بدخول قوات مصرية إلى سيناء بما يناقض المعاهدة، وقد بدأ الصراخ والعويل من وزير الخارجية الإسرائيلى ثم انتقل إلى رئيس الوزراء مطالبين بسحب القوات المصرية المخالفة، وقد ردت المصادر العسكرية والسياسية بأننا عازمون على تنظيف سيناء من الإرهاب حتى ولو اقتضى الأمر تعديل المعاهدة، غير أن المتابع لمجريات الأمور فوجئ بأن القوات المسلحة المصرية انسحبت تماما من المنطقة (ج) بما يعنى الخضوع للمطالبات الإسرائيلية، ويشير هذا إلى أن القيادة المصرية لم تضع موضوع المعاهدة بعد على سلم أولوياتها.
●●●
مطلوب شفافية كاملة بخصوص كل ما يجرى داخل سيناء، ومطلوبة أيضا خطوات عاجلة لتنمية سيناء بما يفيد أبناءها ويربطهم برباط المواطنة مع دولتهم بدلا من الخضوع للمخططات الإرهابية والإغراءات الإسرائيلية. مطلوب كذلك أن نعى تماما أن ثمة حقائق جديدة تحتم تعديل المعاهدة مع إسرائيل، فإن لم نفعل قد يتعين علينا فى مقبل الأيام أن نطوى صفحة سيناء «المصرية».