تحتفل مصر بالذكرى التاسعة والثلاثين لحرب أكتوبر 1973 والتى كانت ولا شك آخر الحروب التقليدية فى القرن العشرين. والمقصود بالحرب التقليدية تلك التى تدور بين الجيوش النظامية بأسلحتها التقليدية البرية والبحرية والجوية على مسرح عمليات واضح المعالم جغرافيا وطبوغرافيا. يتصادم على هذا المشرح الجيشان المتحاربان، ولكل منهما أهدافه وكل منهما يستند على عقائده العسكرية وإرادته للقتال. مثل هذه الحروب الواضحة تتحدد نتائجها المباشرة على أرض المعارك.
فى هذا الإطار دارت وقائع حرب أكتوبر 1973.. وتلك النتائج هى التى تحدد ليس فقط من الذى حقق النصر العسكرى.. ومن الذى منى بالهزيمة، لكنها وربما هو الأهم تحدد مدى ما وفرته تلك النتيجة من إمكانية تحقيق الأهداف الإستراتيجية للحرب.. وإلى أى مدى كانت تلك الحرب ضرورية.. ولعله السؤال الأول المشروع. هل كانت حرب أكتوبر 73 ضرورية؟ الإجابة بالقطع نعم فبعد هزيمة عسكرية مريرة فى يونيو 1967 كان الثأر لهذه الهزيمة أمرا حتميا بالنسبة للشعب المصرى. والمقصود بالثأر هنا الثأر للكرامة القومية، وهو ما يفتح الطريق لتحرير الأرض المحتلة فى سيناء إذا كان الهدف القومى واضحا كل الوضوح وهو إستعادة الكرامة بتحرير الأرض.. وهنا يأتى السؤال الثانى المشروع.هل تحقق الهدف؟
●●●
على المستوى العسكرى الإجابة واضحة حيث حقق المقاتل المصرى نصرا عسكريا والحق الهزيمة بالآلة العسكرية الإسرائيلية على مسرح العمليات المكشوف وعلى مرآى ومسمع من العالم وأجبر العدو على الإنسحاب شرقا بعد تكبيده خسائر جسيمة فى الأسلحة والمعدات والأفراد وحرر الضفة الشرقية للقناة ووصل إلى عمق تراوح ما بين 10 و15 كم فى سيناء وتمسك بالأرض التى حررها بعد فشل كل الهجمات والضربات المضادة للعدو التى كانت تهدف إلى دفعه مرة أخرى إلى غرب القناة. الحرب لا يمكن أن تسير على وتيرة واحدة هناك موازين للقوى الإقليمية والدولية ما كانت لتسمح بتحقيق نصر عسكرى مصرى كاسح يحرر كل الأرض ويلحق بإسرائيل هزيمة ساحقة. لذلك ودون الخوض فى مبررات فقد تمكنت إسرائيل من إحداث ثغرة فى القوات المصرية شرق القناة استغلتها فى عبور قواتها إلى غرب القناة فى منطقة الدفرسوار شمال البحيرات المرة مباشرة، وتقدمت جنوبا حتى وصلت إلى مشارف مدينة السويس وإلى طريق السويس القاهرة، وتوقفت عند ذلك الحد بعد فشلها فى اقتحام المدينة.
ولعبت التوزانات الدولية دورها وصدر قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار والذى تم بالفعل فى 28 أكتوبر 1973 وكانت أوضاع القوات المتحاربة قد اختلفت. القوات المصرية متمسكة بمواقعها شرق القناة بامتدادها عدا نقطة الدفرسوار.. والقوات الإسرائيلية فى الثغرة غرب القناة محاطة بالقوات المصرية. والإتفاق الدولى على وقف إطلاق النار أصبح ملزما، وكلا الجانبين لم تعد لديه القدرة الحقيقية على استئناف القتال قبل استعواض خسائره وإعادة احتياطاته، وهو أمر تتحكم فيه القوى الخارجية الدولية المتوافقة على توقف القتال. عند هذه النقطة كانت القوات المصرية قد حققت ثأرها العسكرى من العدو الإسرائيلى وحررت ما يقرب من 2000 كم2 من سيناء التى تبلغ مساحتها 62 ألف كم2 والقوات الإسرائيلية فى ثغرة غرب القناة غير قادرة على الاستمرار ومعرضة لمخاطر عديدة.
وكان لابد من تدخل طرف ثالث كان يعد نفسه بالفعل للتدخل، وهو الولايات المتحدة الأمريكية التى رأت أن الموقف ربما يكون فى حالة توازن عسكرى يسمح بالإنتقال من مسرح القتال إلى مسرح السياسة لتبدأ معركة جديدة.
●●●
وهنا يأتى السؤال الثالث المشروع هل حققت المعركة السياسية أهدافها؟ ولأن السياسة ليست الحرب يمكن أن تعطينا إجابات حاسمة وقاطعة، فقد إختلفت الإجابات على هذا السؤال. هناك من يقول نعم حققت أهدافها وهناك من يقول غير ذلك.. لكن ما جرى أن هناك ما يعرف بعملية السلام بين مصر وإسرائيل برعاية أمريكية بدأت بالفعل ومرت بمراحل عديدة من مباحثات ميدانية عرفت بمباحثات كم 101 مرورا بإتفاقيات فصل بين القوات أولى وثانية إلى زيارة السادات إلى القدس ومباحثات كامب ديفيد وإنتهاء بتوقيع معاهدة سلام مصرية إسرائيلية فى مارس 1979 فى بليرهاوس. أهم ما تشمله المعاهدة إنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل والانسحاب الإسرائيلى الكامل من الأرض المصرية وعودة السيادة المصرية إليها كاملة وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين تحكمها قواعد القانون الدولى. وقد تم تنفيذ كل ذلك، ولأن النصر لا يكتمل إلا بتحرير كل الأرض المحتلة فنستطيع القول بكل ثقة أن نصر أكتوبر قد اكتمل.
ولكن يبقى السؤال الرابع والأخير المشروع أيضا وهو حول ما جاء بمعاهدة السلام فى مادتها الرابعة والخاصة بالترتيبات الأمنية فى سيناء والملحق الأمنى الخاص بها وهو محل الجدل المستمر والذى يطرح كثيرا من الأسئلة على شاكلة هل ينتقص ما جاء فى هذا الملحق من السيادة المصرية على سيناء؟ وهل يعيق عملية تنمية وتعمير سيناء؟ وهل يمثل قيدا على إمكانية الدفاع عن سيناء إذا تعرضت للهجوم؟ وهل يعيق عملية حفظ الأمن فى سيناء؟ وغيرها.. هذه الأسئلة تعتبر أيضا مشروعة وكان لابد من وجود إجابات واضحة عليها لتمنع اللبس خاصة فى ظل ما تمر به سيناء هذه الأيام من ظروف أمنية أقل ما توصف به أنها غير مستقرة.. وفى إجابات محددة فإن هذه المادة وملحقها لا تنتقص من السيادة المصرية على سيناء بدليل ما حدث أخيرا من دخول القوات المسلحة لفرض السيادة المصرية حتى آخر نقط الحدود، ولا يعوق أى عمليات لحفظ الأمن العام فى سيناء فلا قيد على تواجد وحركة عناصر الشرطة المدنية بكل أنواعها وقواتها، أما عن التنمية والتعمير فلا شىء فى الاتفاقية يعوق أو يمنع تنمية وتعمير سيناء بأى حال.
●●●
ولا يجب أن تستخدم المعاهدة كذريعة (شماعة) نعلق عليها أخطاءنا وتقصيرنا فى حق سيناء. فى النهاية يبقى السؤال الأكثر أهمية.. هل تعوق المادة الرابعة وملحقها الأمنى عملية الدفاع عن سيناء؟ فى ظل تحديد 4 مناطق محددة القوات أ، ب،ج وأخيرا داخل حدود إسرائيل للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نضع أمامنا الحقائق الآتية:
الإتفاقية تمت عام 1979 أى منذ 33 عاما بالضبط تغيرت فيها كل النظم العسكرية ونظم التسليح التى شهدت طفرة هائلة فيما يعرف بالثورة فى الشئون العسكرية R.M.A التى تعتمد على التكنولوجيا المتطورة، ولم تعد القدرات العسكرية تحتسب بالكم والأعداد، لكن بمدى التقدم التكنولوجى سواء فى وسائل الكشف والإنذار أو وسائل القتال عن بعد والمعارك العميقة. وهو موضوع قد لا يكون هذا مجاله. والمعاهدة وملحقها الأمنى لا تضع أى قيود على هذا.
كما أن الملحق الأمنى كان المقصود منه بمعايير ذلك الوقت (1979) منع أى من الطرفين من شن حرب مفاجئة كما حدث فى أكتوبر 1973 وهو ما لم يعد ممكنا فى ظل تطور وسائل الكشف عبر الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار وغيرها.
ورغم ذلك فإن نفس المادة الرابعة فى الاتفاقية تنص على حق أى من الطرفين فى طلب تعديل هذا الملحق باتفاق الطرفين، وهو ما لم يحدث طلبه من أى منهما بصفة رسمية كما أن المعاهدة تنص فى مادة أخرى أنه فى حالة عدم الاتفاق يتم اللجوء إلى التوفيق أو إلى التحكيم الدولى وهو ملزم.
●●●
خاض المقاتل المصرى حرب أكتوبر 73 وحقق نصرا عسكريا استرد به الكرامة الوطنية.. وحمى المفاوض المصرى على مدى 6 سنوات حتى حقق نصرا سياسيا استكمل به تحرير الأرض وعودة السيادة المصرية عليها كاملة.. رغم ما يدعيه المدعين.
وتحية لأرواح الشهداء ودماء الجرحى والمصابين وكل المقاتلين فى ذكرى عزيزة على كل مصرى.