أعلنت وزارة التربية والتعليم منذ بضعة أشهر عن تعديلات فى المناهج الدراسية بهدف تطهيرها مما يمكن أن يغذى التطرف والعنف. وتم بالفعل حذف بعض النصوص القصيرة. وتم إنشاء لجنة رفيعة المستوى لإصلاح المناهج لإجراء المزيد من التعديلات ولكن الدلائل تشير أن دورها أقرب للدور الإشرافى على عمل نفس الأشخاص والآليات التى أدت إلى الوضع الحالى. لذا لم يكن غريبا أن نرى نقدا مريرا لمناهج التربية الإسلامية الجديدة لهذا العام لاحتوائها على «رؤى داعشية».
وبخلاف المناهج فإن جذور التطرف الحقيقية تكمن فى مواضع أخرى تماما. وقد ظهر ذلك جليا عندما تم الكشف فى شهر أكتوبر عن تفاصيل «خطة الإخوان للسيطرة على المدارس»، حيث يتم التركيز على الإذاعة المدرسية بتدريب مجموعة من الطلبة والكوادر الإخوانية من المعلمين للاشتراك فيها. فضلا عن استغلال التأكيد المستمر على أهمية أداء صلاة الظهر فى مصلى المدرسة فى استقطاب الطلبة وقت الصلاة. ويتضمن المخطط إمداد الطلبة بالملازم والملخصات وإعطاءهم دروسا خصوصية مجانية. هذا إلى جانب التسابق على تغطية الحصص الاحتياطية واستغلالها للتأثير على الطلبة. أما آخر وربما أهم المحاور فيدور حول السيطرة على الحضانات الخاصة والحضانات التابعة للجمعيات الأهلية.
وبينما تعكس هذه التفاصيل نشاط الجماعات الإسلامية المختلفة فى المدارس على مدى عشرات السنين الماضية، فإن هذا التأثير لم يكن ممكنا إلا فى إطار سياسات محددة اتبعتها الدولة منذ السبعينيات. فقد ظن السادات ومن بعده مبارك أن منح تيارات الإسلام السياسى بأطيافه المختلفة مزيدا من النفوذ من شأنه أن يعزز حكمهما بل ويرفع عن كاهل الدولة عبء الانفاق على الخدمات. إلا أن ذلك فشل فى تحصين أى منهما ضد الاغتيال أو الثورة وأدى إلى انهيار تام فى مرافق الدولة وفى جودة التعليم فى مصر. فتحت ستار تشجيع القطاع الخاص وترشيد الإنفاق، تم تدمير مؤسسات الدولة وأهمهما المدارس ليترك الأطفال تحت رحمة الجمعيات الدينية فى ظل تعليم حكومى مهترئ.
***
فبالتوازى مع سياسات الانفتاح، أصبح «العلم والإيمان» هما أساس تقدم ونهضة مصر استبدالا لخطاب العهد السابق الذى ركز على تحقيق النهضة من خلال العدالة الاجتماعية وتوفير فرص العمل والتعليم للجميع. ولجأ السادات إلى تشجيع تيار الإسلام السياسى والتأكيد على أنه الرئيس المؤمن الذى يعدل الدستور ليجعل الشريعة المصدر الأساسى للتشريع. وقام بالإفراج عن أعضاء الجماعات الإسلامية من السجون وتمكينهم من التأثير على التعليم والجمعيات الأهلية. وشمل ذلك السيطرة على الجامعات والمدن الجامعية، خاصة فى محافظات الصعيد مع زيادة نسب التحاقهم بكليات التربية.
ولقصر عهد السادات، لم تظهر آثار هذه السياسات جليا إلا فى عهد مبارك. فقد أدى تراجع الاستثمار فى قطاع التعليم إلى انخفاض شديد فى جودته ومن ثم انتشار المدارس الخاصة وتفشى ظاهرة الدروس الخصوصية. ولم تؤد الدروس الخصوصية إلى التهام جانب كبير من دخل الأسر فحسب، بل إنها فتحت الباب على مصراعيه أمام الجمعيات الدينية لتقوم هى بتوفير التعليم أو تقديم مساعدات مباشرة لأولياء الأمور لتحمل تكاليفه. كما تركت الدولة مرحلة الطفولة المبكرة للجمعيات الأهلية، والتى تدار فى معظم أنحاء البلاد من قبل جمعيات دينية لا تمارس الوزارة رقابة حقيقة على الأفكار التى تنشرها بين الأطفال.
***
وكان من أحد سمات سيطرة التيارات المتطرفة على المدارس الحكومية فى عهد مبارك، استبدال النشيد الوطنى بأناشيد دينية فى العديد من المدارس. بل وقد أشار أحد التقارير منذ أسابيع، أن الطلبة فى إحدى المدارس فى قلب القاهرة، لا يرددون سوى عبارة واحدة فى طابور الصباح هى: «لا إله إلا الله» دون أداء تحية العلم أو النشيد الوطنى. وبوجه عام فقد أصبحت الأنشطة فى المدارس المصرية تدور فى فلك الموضوعات الإسلامية، مثل مسابقات تلاوة وتحفيظ القرآن وأصبحت برامج الإذاعة المدرسية تنحصر فى محتوى دينى ذى توجه معين. ومن ثم أصبحت الأنشطة الثقافية والفنية والموسيقية غائبة عن المدارس وانتشر إلغاء حصص التربية الرياضية للبنات. وأصبحت المدارس الحكومية العالية الجودة والمليئة بالأنشطة التى شهدتها الأجيال السابقة مجرد ذكرى.
وتزامن ذلك مع تغير واضح فى توجه الكتب المدرسية، والتى أصبحت تدور بشكل كبير حول رؤية بعينها للإسلام كمرجعية سياسة أساسية. ولا يتركز هذا المحتوى فى كتب التربية الدينية بل يسود مناهج اللغة العربية بالأخص، بالإضافة إلى التربية الوطنية والتاريخ. ففيها يقدم حب الوطن ذاته على أنه قيمة يحض عليها الإسلام وكذلك الديموقراطية ومبادئها. كما أن الحديث عن القيم الإنسانية وقيم العمل والأسرة وكذلك العلم والطب والصناعة يدور فى إطار فروض الكفاية على المسلمين. وكذلك العدل فهو ليس مبنيا على القانون أو الدستور أو حقوق الأفراد ولكنه ينبع أساسا من الإسلام والحكم بما أمر الله.
ومن الأمثلة على ذلك رواية «وا إسلاماه» المقررة على طلبة الثانوية العامة طوال عهد مبارك وحتى الآن، والتى ألفها على أحمد باكثير المعروف بصلته بجماعة الإخوان المسلمين. ولهذا تعكس تفاصيل الرواية (بخلاف الفيلم الشهير الذى يعالج نفس الأحداث) خطاب الإسلام السياسى وتؤكد على وجوب الطاعة للحاكم الصالح الذى يقيم الجهاد. ويبدو أن صناع القرار التعليمى لا يزالون يرون أن الروايات التى تدور حول الفتوحات والجهاد مثل عقبة بن نافع ووا إسلاماه هى فقط الجديرة بتدريسها للشباب على مدى عشرات الأعوام.
***
إلا أن الخطر الحقيقى على أية حال يكمن فى تدريس المواد التعليمية من قبل معلمين متشبعين بالفكر المتشدد. وبالفعل بعد موجة الهجمات الإرهابية فى مطلع التسعينيات، تم اتخاذ إجراءات تهدف إلى تخفيف قبضة المتطرفين على المؤسسات التعليمية، وتم نقل آلاف المعلمين إلى وظائف إدارية ومناطق نائية. ولكن للأسف، لم تصاحب هذه التدابير الأمنية تغييرات حقيقية فى توجه الكتب أو الأنشطة المدرسية، ولا يعقل أن يكون الحل هو نقل المتطرفين إلى المناطق المهمشة ليمارسوا فيها نشاطهم.
وفى مطلع القرن الحالى، شجع النظام مرة أخرى خطابا دينيا آخر يرى أن نهضة المسلمين لن تتحقق إلا من خلال الالتزام بالأخلاق والعفة والتبرع بالصدقات وتأدية العبادات وريادة المشروعات الخاصة بدون التأكيد على أى دور للدولة، سواء فى «تطبيق الشريعة» أو فى توفير وإصلاح الخدمات العامة. وقد استخدم النظام ذلك كغطاء لتخلى الدولة عن مسئولياتها، خاصة فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية. ونرى مثالا لذلك فى كتاب التربية الوطنية لعام 2009، الذى يعكس خطاب الحزب الوطنى المنحل، الذى يدفع بأنه من غير المجدى الاعتماد على الدولة فى حل مشاكل البلاد وأن «الأمل فى إحداث نهضة حقيقية» يعتمد على إحياء المؤسسات والجمعيات الخيرية. وينص الكتاب ذاته أن أهم سمات «المواطن الصالح» هى الإيمان بالله سبحانه وتعالى والتمسك بتعاليم الدين، وكذلك الأمر بالمعروف. وهنا يسعنا القول بأن مستوى التبرعات الخيرية وكافة مظاهر الالتزام الدينى لدى المصريين قد زادت بالفعل فى عهد مبارك، إلا أن أوضاع البلاد لم تزدد إلا سوءا.
وبعد أن ثار المصريون على هذه الأوضاع، فالأمل فى تحقيق أية تقدم يتمثل فى تبنى سياسات اقتصادية واجتماعية سليمة، ومن أهمها العمل على إحداث إصلاح حقيقى للتعليم الحكومى وتطوير جذرى لمناهجه.