صالح سليم(2) - خالد الخميسي - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 10:24 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صالح سليم(2)

نشر فى : الأحد 7 فبراير 2010 - 10:06 ص | آخر تحديث : الأحد 7 فبراير 2010 - 10:06 ص

 «أن تخطو فى أرضك أقدام المحتلين، هو أن تغدو كل بساتين الوطن زنازين». هذا البيت من الشعر لعبدالرحمن الخميسى يعبر أصدق تعبير عما حكاه لى صالح سليم عن مشاعره فى فترة الاحتلال الإسرائيلى لأرضه فى كاترين وذكرى تفجير المخبأ فى السويس بقنابل طائرات الأعداء لا يفارق مخيلته. كان يستمع بكل فخر لقصص بطولات عائلته الذين استطاعوا بعد النكسة إيواء الجنود المصريين وإخفائهم عن الأعين فى الأودية ثم نقلهم بسلام إلى البر الغربى للقناة عن طريق الجبال. أشار لى بإصبعه نحو الحائط وطلب منى قراءة ما تم تعليقه. كان تليغرافا من رئيس الجمهورية المصرى موجه إلى الشيخ «محمد أبوالهيم» شيخ قبيلة الجبلية سانت كاترين وكان نص التليغراف: «أشكرك على مشاعركم الوطنية الصادقة التى أعربتم عنها بمناسبة عودة طلائع قواتنا المسلحة. مع خالص تحياتى».

حكى لى عن قريب له قام بمهمة عسكرية للجيش المصرى، وكانت المهمة تتلخص فى قيامه بتصوير معسكر إسرائيلى بجانب كاترين، زحف إلى المعسكر قبل الفجر استعدادا لتصوير الموقع فور بزوغ الشمس، إلا أن الصدفة جعلت من هذا اليوم تحديدا يوم التدريب الصباحى على النيشان. أسرع بالاختباء خلف شجرة، وكانت هذه الشجرة تحديدا هى مرمى نيشان الجنود الإسرائيليين، مرت عليه الدقيقة كدهر من الزمن ولكنه رغم ابتلاعه جبال من الفزع حطمت أعصابه استطاع فى النهاية إتمام المهمة وقام بتصوير الموقع على أكمل وجه. أما بطل كاترين القومى فكان المقاتل «سالم أبوغنايم» الذى توفى من قرابة الأربعة أشهر فى كاترين. وهو الرجل الذى فجر حافلة جنود إسرائيليين فى أبورديس، وتم اعتقاله لمدة سبع سنوات فى إسرائيل ذاق خلالها كل أنواع التعذيب، وعاد بعد هذه السنوات إلى أرضه عن طريق عملية تبادل أسرى. فترة الاحتلال لا يمكنه أن ينساها فكما قال أن تختبر شيئا غير أن تسمع عنه.

انتهى الاحتلال وتزوج صالح سليم وجاء إلى الدنيا بأبناء لم يذوقوا مذلة وهوان الاحتلال، ولكن الجميع بدأ يتذوق نوعا آخر من الهوان. دخلت الحكومة المصرية بثقلها التاريخى فى كاترين لتنظيم الأوضاع وفقا لنظرية النظام السريالى المصرى. قامت حكومتنا ببناء مستشفى فى منتهى الفخامة. ولكن لا يوجد فيه أطباء أكفاء أو تمريض كفء. مرضت والدة صالح بعد وفاة والده. ذهب بها إلى المستشفى فأطلقوا فى وجهه التصريحات الاعتيادية: «لا توجد لدينا خدمات طبية تسمح بعلاج والدتك.. اذهب إلى مستشفى الطور». حمل والدته إلى الطور. أحالوا أمرها إلى القاهرة. وفى القاهرة تلقى لطمة لا علاقة لها بعلاج والدته، لطمة لا يمكنه أن ينساها. كان متوجها إلى المستشفى فى مترو الأنفاق مرتديا ملابسه البدوية التقليدية. دار الحديث كالمعتاد، كلمة من هنا وكلمة من هناك وعرف من حوله أنه من بدو سيناء، فصرخت فى وجهه امرأة: «خائن.. خائن.. جميعكم خونة، تفضلون الوجود الإسرائيلى فى سيناء عن عودتكم إلى وطنكم». لم يرد عليها.

عاد بوالدته إلى سيناء وهى جثمان مسجى. وفوجئ بعد عودته أن الدولة المصرية تطالبهم بدفع مبلغ خمسة وسبعين جنيها للمتر على أراضيهم التى يعيشون عليها منذ قرون. يعيش هو وعائلته على أرض رملية فى الصحراء فى بطن الجبل على نحو ألفى متر، مطلوب منه إذن دفع مبلغ مائة وخمسين ألف جنيه. لم يدفع بالطبع ولم يدفع أحد من بدو كاترين حتى الآن هذه المبالغ الخيالية التى تطالبهم بها حكومتنا الغراء، لأن الأغلبية بكل بساطة لا تمتلك هذا المطلوب. ترفض الدولة التدخل فى شئونهم وتترك القانون العرفى الخاص بهم يكون الفيصل والحكم فى أى خلافات هناك وفى نفس الوقت تريد فرض إتاوات دون أن يكون لها أى هيبة. أبناء صالح فى المدارس التى أنشأتها الحكومة لا يتعلمون فيها شيئا. يتم منع السياح من المبيت فى رحلات السفارى وهذا هو الدخل الرئيسى لأبناء قبيلة الجبلية، ثم يعودون ويسمحون ثم يعودون ويمنعون. حالة فوضى مطلقة لا هدف لها. أما النتيجة فحالة خنق متصل لفرص بدو سيناء فى تحقيق مستوى معيشى إنسانى.

ومع كل صباح يتنسم صالح سليم هواء الإهانة من الجميع وسط اتهامات عمالة وزراعة مخدرات وإيواء إرهابيين واتهامات أخرى بأن هؤلاء البدو لا يمكن التعامل معهم. أمنية صالح سليم فى بساطة حركة أجنحة الفراشة متلألئة الأضواء والألوان: أمنيته أن يعامل هو المصرى كمصرى. يتساءل هل هذا ممكن؟ ينظر فى وجهى بهدوئه العذب قائلا: ما العمل؟

خالد الخميسي  كاتب مصري