ما تزال غيوم أزمة الطاقة الموجعة تلبد السماء الأوروبية. فلم تلبث 40 مليار متر مكعب من إمدادات الغاز الروسى، التى تعبر 80% منها الأراضى الأوكرانية، لتلبى ثلث متطلبات الغاز الأوروبية سنويا، تتراجع بنسبة 25%، على وقع اشتداد وطأة النزاع الروسى ــ الأوكرانى. بالتزامن، انكماش الإنتاج الأوروبى من الوقود الأزرق، منذ العام 2017، بعدما تجمدت إمدادات النرويج عند 20%، وتقلصت احتياطيات مرافق تخزين الغاز الأوروبية من 85% إلى حوالى 47٪ من إجمالى سعتها التخزينية الكاملة. وفى إطار الاستراتيجية الأوروبية لإدراك الحياد الكربونى بحلول العام 2050، يجرى التخلى تدريجيا عن المحطات النووية والفحم، ضمن مزيج الطاقة المستقبلى، لصالح زيادة الاعتماد على الغاز حتى عام 2040، كونه أقل أنواع الوقود الأحفورى لجهة الانبعاثات الغازية الضارة. ولعل هذا ما يفسر عدم الاندفاع الألمانى فى استحضار مواجهة غربية ــ روسية حول أوكرانيا.
وبينما يستنكف الأوروبيون عن إبرام عقود طويلة الأمد لاستيراد الغاز، فقد باتوا أكثر انكشافا، وتأثرا بالاضطرابات الجيوسياسية، التى قفزت بأسعار الغاز والنفط، مؤخرا، بنسبة 40%.
بينما يتعاظم الطلب الأوروبى على الغاز الروسى، تحت وطأة زمهرير الشتاء، مع التحرر التدريجى من إغلاق جائحة كورونا، يتخوف الأوروبيون من أن تتمخض المواجهة المفتوحة مع روسيا، على خلفية الأزمة الأوكرانية، وما تستتبعه من عقوبات قاسية مرتقبة على موسكو، إلى حمل الرئيس بوتين على قطع، أو تقليص، إمدادات الغاز لأوروبا، فى سياق استخدام الوقود «سلاحا جيوسياسيا»، ردا على أية عقوبات أمريكية، وإجبارا للأوروبيين على تسريع تشغيل خط «نوردستريم2»، الذى يتوقع معنيون أن يفاقم اعتماد القارة العجوز على الغاز الروسى بنسبة 50%.
تجنبا لانفراط عقد التحالف الأوروأطلسى فى مواجهة روسيا إبان الأزمة الأوكرانية، تعهدت واشنطن بضمان استمرار تدفق إمدادات الطاقة للأوروبيين خلال فصلى الشتاء والربيع، من مصادر شتى. فتزامنا مع تهديدها بتجميد خط أنابيب «نورد ستريم 2 »، الذى تكلف إنشاؤه 12 مليار دولار، بهدف مضاعفة إمدادات الغاز الروسية إلى ألمانيا، مرورا ببحر البلطيق، متجاوزا أوكرانيا، حالة غزو روسيا لأوكرانيا، تبنت واشنطن «خطة طوارئ»، لاستبقاء تدفق الغاز لأوروبا، عبر حزمة تدابير.
الغاز الأمريكى المسال: فقد آلت واشنطن على نفسها، منذ سنوات، أن تهيمن على أمن الطاقة العالمى، عبر محاصرة سياسات الطاقة الروسية، وإجهاض المساعى البوتينية لتقليص ارتباط الاقتصاد الروسى بالدولار الأمريكى، من خلال تقاضى مقابل صادرات الغاز الروسىية لأوروبا باليورو بدلا من الدولار. مستثمرا تضخم الانتاج الأمريكى من الغاز الصخرى، عمد الرئيس السابق ترامب، إلى تزويد الحلفاء الأوروبيين بغاز مسال أمريكى كبديل لذلك الروسى، ضمن ما وصفه بـ«غاز الحرية»، الهادف لتنويع وتأمين إمدادات الطاقة، فى مناخ تنافسى.
بالتوازى، مضت واشنطن فى إعاقة خط أنابيب «نورد ستريم 2»، لمنع روسيا من استخدام الطاقة كأداة لابتزاز الأوروبيين. ومنذ العام 2017، زودت واشنطن الاتحاد الأوروبى، بنحو 24% من إجمالى الصادرات الأمريكية من الغاز المسال. وبحلول العام 2019، أصبحت الولايات المتحدة ثالث أكبر مورد غاز للأوروبيين، الذين باتت تزودهم بنسبة 13% من احتياجاتهم. وتتوقع المفوضية الأوروبية تضاعف واردات أوروبا من الغاز الأمريكى هذا العام، مع تطوير شبكات خطوط الغاز المسال بأرجاء القارة العجوز.
البديل القطرى: نتيجة لإمكاناتها الغازية الهائلة، أضحت قطر مقصدا للأوروبيين والأمريكيين، التماسا لإسهامها فى سد العجز الناجم عن تجميد أو تقليص، موسكو صادراتها من الغاز لأوروبا، بجريرة الأزمة الأوكرانية. وبموازاة مباحثات أجراها الرئيس بايدن مع أمير قطر بهذا الخصوص فى البيت الأبيض، دشن الاتحاد الأوروبى مفاوضات مع الدوحة، لإقناعها بزيادة صادراتها الغازية إلى بلدانه، حال تصاعد الصراع الروسى ــ الأوكرانى. ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يتلقى فيها القطريون دعوات أوروبية ملحة بشأن زيادة إمدادات الغاز، إثر توتر العلاقات الأوروبية ــ الروسية. فقد سبق للبريطانيين التباحث مع القطريين لإبرام صفقات طويلة الأمد، تجعل من الدوحة «مورد الملاذ الأخير» لأوروبا.
الخيار المتوسطى: سعيا منها للعب دور رئيس فى منظومة غاز شرق المتوسط، بما يدعم استراتيجيتها للهيمنة على أمن الطاقة العالمى، وإنهاء تبعية أمن الطاقة الأوروبية لموسكو، أقرت واشنطن عام 2019 قانون التعاون مع دول شرق المتوسط فى مجال الطاقة. وقبل قليل، فاجأت كل من اليونان، وإسرائيل وقبرص، بسحب دعمها لخط أنابيب الغاز «إيست ميد»، لنقل غازهم إلى أوروبا، ومنافسة خط «نورد ستريم2»!. وأرجعت واشنطن موقفها إلى تغيير أنماط استهلاك الطاقة الأوروبية، ضمن استراتيجية الطاقة الخضراء. فضلا عن تخطى تكلفة إنشاء خط «إيست ميد» سبعة مليارات دولار، وتأخرإنجازه حتى عام 2025. بدورها، رحبت أنقرة بانسحاب واشنطن من المشروع، الذى تم استبعاد الأتراك منه، معتبرة الخطوة الأمريكية محاولة لاسترضائهم، وكبح جماح تقاربهم الاستراتيجى مع روسيا، توخيا لتضييق الخناق عليها.
قد لا يتسنى لبديل الغاز المسال، تعويض أوروبا عن نقص إمدادات الغاز الروسى. ففى حين غدت واشنطن أكبر مُصدر للغاز المسال عالميا، فيما تسعى لزيادة صادراتها منه بنسبة 20٪، لتبلغ 13.9 مليار قدم مكعب يوميا نهاية العام الجارى، لن يكون بمقدورها الوفاء باحتياجات أوروبا الغازية، حالة تمنع موسكوعن تزويدها. فرغم الطفرة المتسارعة بصادرات الغاز الأمريكى المسال لأوروبا، لا تزال روسيا أكبر مورد للغاز الطبيعى إلى الاتحاد الأوروبى، الذى لا تفتأ 11 دولة من أعضائه القريبين جغرافيا لروسيا، يستوردون منها ما يناهز 75% من إجمالى احتياجاتهم الغازية. وتصطدم تطلعات واشنطن لزيادة صادراتها الغازية إلى الاتحاد الأوروبى بافتقاد غازها المسال للسعر التنافسى، جراء تنامى كلفة تسييله ونقله، مقارنة بنظيره الروسى المنقول عبر الأنابيب من بقاع دانية.
أما بخصوص الغاز القطرى، الذى لا يلبى سوى 5% فقط من احتياجات الغاز الأوروبية، فقد ألمحت الدوحة إلى عدم جهوزيتها لضخ إمدادات إضافية فى الأسواق الأوروبية، كونها تعمل الآن بطاقتها الانتاجية القصوى، كما ترتبط بعقود مسبقة وطويلة الأمد مع عملاء أساسيين ككوريا الجنوبية واليابان والصين. وتلافيا لأية توترات محتملة مع شركائها الدوليين، ألقت الدوحة بالكرة فى ملعب واشنطن وبروكسيل. حيث طالبتهما بإقناع عملائها الآسيويين بإعادة توجيه بعض حصصهم من الغاز القطرى كإجراء إنقاذى عاجل للأوروبيين. علاوة على تلقى ضمانات أوروبية، تكفل عدم إعادة بيع إمدادات الغاز القطرية الطارئة للاتحاد خارج دوله.
اقتضت معطيات جيوسياسية، حتمية الاعتماد الاقتصادى المتبادل بين روسيا وأوروبا. فمن جهة، يستعصى على الأوروبيين التخلى كلية عن الغاز الروسى، إذ يستغرق توفير البنية التحتية من خطوط أنابيب جديدة ومنشآت تسييل الغاز، سنين عددا، كما يتطلب التوجه صوب الاعتماد على الغاز المسال، لوجيستيات معقدة. ورغم قدرة أوروبا على معالجة الغاز المسال المستورد، وإعادة تحويله إلى غاز طبيعى، تبقى المعضلة فى إيصال ذلك الغازالمسال إلى المستهلكين بسلاسة. ذلك أن البنية التحتية اللوجيستة الكفيلة بتوزيعه، ليست مؤهلة لاستيعاب ذلك التحول التقنى الهائل. كذلك، تشكل السعة المحدودة لخطوط الأنابيب الحالية، عقبة كأداء أمام إعادة توجيه الغاز الإضافى إلى الأصقاع الأوروبية عبر شبه الجزيرة الأيبيرية، من خلال الخطوط نفسها. ناهيك عن الاضطراب المتوقع فى أسواق الشحن، جراء تغيير طرق التجارة ومسارات السفن الناقلة للغاز المسال.
فى المقابل، لا يبدو الاقتصاد الروسى مستعدا لتحمل تبعات انسحاب الاستثمارات الأوروبية الطائلة، أو تكبد خسائر تناهز العشرين مليار دولار، حالة قطع الغازعن أوروبا. وما برحت موسكو تحرص على صدقيتها كمُصدر موثوق لأمن الطاقة الأوروبى والآسيوى، وسط ظروف اقتصادية حرجة، يتعذر خلالها إيجاد أسواق بديلة أفضل فى زمن قياسى. الأمر الذى يجعل خيار قطع الغاز الروسى عن أوروبا، ضربا من الانتحار الاقتصادى. وفى نهاية المطاف، يبقى نزع فتيل أزمة الطاقة المتعاظمة مرتهنا بحلحلة الأزمة الأوكرانية. فحينئذ، وبغض النظر عن تشغيل خط «نورد ستريم 2 » من عدمه، لن تتورع روسيا عن معاودة ضخ الغاز بكثافة، عبر خطوط الأنابيب التقليدية، سواء تلك التى تمر عبر أوكرانيا، أو سواها كخطى «التيار الأزرق»، و«يامال ــ أوروبا».