«بطحة» كيرى - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأربعاء 25 سبتمبر 2024 5:25 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«بطحة» كيرى

نشر فى : الخميس 7 مارس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 7 مارس 2013 - 8:00 ص

كان أول درس نتعلمه بخصوص السياسة الأمريكية الخارجية ونحن ما زلنا طلابا فى سنواتنا الجامعية الأولى أن هذه السياسة تقوم على مبدأ «البراجماتية»، وأسهل طريقة لتوضيح هذا المبدأ ومعناه القول الشعبى المأثور: «اللى تغلب به العب به» بمعنى التعامل مع الواقع وليس السعى إلى خلق واقع جديد، فالسياسة الخارجية لأية دولة تسعى بداهة إلى تحقيق مصالحها، وفى هذا السياق تعنى «البراجماتية» أنك تستفيد من المعطيات الواقعية فى الساحة الدولية لكى تحقق تلك المصالح، ولهذا مثلا قيل الكثير عن النهج الأمريكى فى تسوية الصراعات، فالسياسة الأمريكية هنا لا تُعنى «بنصرة المظلوم»، وإنما تهتم به وبحقوقه فى الساحة الدولية عندما يثبت أنه صار معطى من معطيات تلك الساحة، بمعنى أن إهمال حقوقه سوف يمثل تهديدا للاستقرار الإقليمى و/أو العالمى، ولهذا كانت السياسة الأمريكية تصم آذانها عن المطلب المصرى الخاص بضرورة التوصل العاجل إلى تسوية سلمية للوضع فى سيناء (بعد عدوان إسرائيل 1967 واحتلالها شبه الجزيرة المصرية) إلى أن وصلت حرب الاستنزاف إلى الذروة فى منتصف عام1970، وساعتها تقدم وليام روجرز وزير الخارجية الأمريكى آنذاك بمبادرة لوقف إطلاق النار والدخول فورا فى مفاوضات لتحديد معالم التسوية التى سيتفق عليها، وإن كانت هذه المبادرة قد أخفقت لأسباب لا علاقة له بها بسبب احتجاج إسرائيل على التحركات العسكرية المصرية التى تمت ليلة وقف إطلاق النار، وأيضا بسبب وفاة عبدالناصر ودخول المنطقة فى مرحلة جديدة. وبعد أن نشبت حرب أكتوبر 1973 التى أثبت العرب فيها مجددا أنهم ليسوا جثة هامدة، وإنما هم على أقل تقدير قادرون على الفعل لم تعترض الولايات المتحدة على قرار مجلس الأمن الذى قضى بوقف إطلاق النار، والدخول فورا فى مفاوضات بين الطرفين للتوصل إلى تسوية تحت إشراف دولى مناسب.

 

•••

لم تقتصر هذه السياسة الأمريكية على حالات الصراع فى الساحة الدولية فحسب، وإنما امتدت إلى جميع جوانب السياسة الخارجية الأمريكية، وعلى سبيل المثال فقد أقامت الولايات المتحدة علاقاتها ببلدان العالم على ذلك الأساس، فالنظم الصديقة لها بمعنى أنها تحقق لها مصالحها لا غبار فى استمرار العلاقة معها بل ودعمها فى وجه محاولات التغيير، حتى ولو كانت تلك النظم غارقة فى مستنقع تجاهل حقوق الإنسان الأساسية أو لم تعرف بعد ألف باء الممارسة الديمقراطية، وربما كان الاستثناء الوحيد فى هذا الصدد هو سنوات حكم جون كيندى المحدودة (من يناير 1961 إلى نوفمبر1963) والتى حاول فيها أن يهدم الصورة السلبية عن السياسة الأمريكية التى تتحالف مع النظم بغض النظر عن موقعها على مقياس حقوق الإنسان والديمقراطية، وكان سؤاله الشهير: لماذا يتعين على الولايات المتحدة أن تحمل هموم تلك النظم المفارقة للتاريخ بينما يتباهى خصومها باتباعهم سياسات تقدمية؟ وكانت الثورة اليمنية هى أول من استفاد من تلك السياسة، حيث اعترفت الإدارة الأمريكية بحكومة الثورة، ولم تعترض على اعتمادها ممثلا للدولة اليمنية فى الأمم المتحدة، وأعلنت فى الوقت نفسه عن نيتها حماية أصدقائها فى المنطقة من أى تهديدات. لكن هذه السياسة انتهت باغتيال كيندى فى نوفمبر1963، ولا يعرف أحد على سبيل التأكيد هل كان من شأنها أن تنجح أم أن مصالح الولايات المتحدة وتعقيداتها فى المنطقة كانت كفيلة بإفشال تلك السياسة حتى ولو لم يُغتَل كيندى.

•••

ثم دشن الرئيس الأمريكى جورج بوش الابن رؤية جديدة للمرة الثانية فى السياسة الخارجية الأمريكية، وقد اعترفت وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس بخطأ السياسة الخارجية الأمريكية «البراجماتية» فى الماضى التى ركزت على العلاقات مع الدول التى توجد فيها مصالح حيوية أمريكية بغض النظر عن البعد المتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية فى تلك الدول، وقد جاءت هذه التصريحات على خلفية «مشروع الشرق الأوسط الجديد»، والذى كان واضحا أن بعدا أساسيا من أبعاده هو التطور الديمقراطى فى المنطقة، ولكنه سرعان ما اتضح أن الهدف الحقيقى من ورائه هو القضاء على بؤر الممانعة للسياسة الأمريكية فى المنطقة. اندثر «مشروع الشرق الأوسط الجديد» وبعده ظهر ما عرف باسم «الربيع العربي»، وكان واضحا أن القوى التى سترث النظم القديمة هى بالتحديد قوى «الإسلام السياسى»، وكانت «البراجماتية» تقضى بضرورة التعامل مع هذه القوى إن أرادت الولايات المتحدة الحفاظ على مصالحها فى دول «الربيع العربى».

•••

لا يعرف هذا البعض أن جذور هذه السياسة تمتد إلى عقود خلت منذ تمكنت «المؤسسة الدينية» فى طهران من الإطاحة بحكم الشاه، وأذكر أننى تلقيت فى عام 1994 دعوة من مجلس الشئون الخارجية الأمريكى لحضور حلقة بحثية مغلقة ليوم واحد كان دورى فيها هو التعقيب على كتاب صغير وضعه أحد رجالات الخارجية الأمريكية عن دور مصر الإقليمى، وكان الحضور (حوالى عشرين فردا) يمثلون تمثيلا أمينا نخبة صنع القرار فى الولايات المتحدة: دبلوماسيون ــ عسكريون ــ أعضاء فى الكونجرس الأمريكى ــ إعلاميون ــ مثقفون.. إلخ. ووصل النقاش فى إحدى مراحله إلى الحديث عن السياسة الأمريكية المثلى تجاه نظام الحكم السابق فى مصر الذى كانت علامات معارضته قد بدأت تتضح، وانقسم الموجودون فريقين: فريق يقول: كفانا ما أصابنا من جراء السياسة الإيرانية بعد الثورة، ووصل من هذه المقدمة إلى أن البناء على ما هو قائم هو أفضل الخيارات مع محاولة إصلاح ما استطعنا. أما الفريق الثانى فقد تساءل: لماذا يتعين علينا أن نتعامل مع قوى لا نعرف عنها شيئا كما حدث فى إيران؟ وكان الخيار الأفضل بالنسبة لهذا الفريق هو إقامة «جسور استكشافية» مع هذه القوى حتى نستطيع التعامل معها إذا حان الوقت لذلك، وسوف يغضب أصدقاؤنا وحلفاؤنا بكل تأكيد ولكن ليذهبوا إلى الجحيم إن فعلوا، فهم يحتاجون إلينا أكثر بكثير مما نحتاج إليهم. لم يتفق الحاضرون على رأى، ولكن من الواضح أن بديل «الجسور الاستكشافية» قد طُبق فى المنطقة على نطاق واسع، وكانت الوفود الأمريكية ذات الصفة الرسمية على سبيل المثال تلتقى مع عناصر الإخوان المسلمين فى مصر على مرأى ومسمع من النظام القديم الذى لم يملك ــ كنوع من الإعراب عن الغضب ــ أن يعادى حليفه أو صديقه الأساس.

•••

ثم هبَّ «الربيع العربى»، وجربت السياسة الأمريكية البديلين معا وأولهما محاولة إقناع الحكام فى النظم التى سقطت بضرورة إجراء إصلاحات سياسية حقيقية، وقد فشلت لأن الغضب الشعبى كان قد تجاوز «فتات» الإصلاح الذى لم يكن فى وسع مبارك أن يقدم غيره بعد ثلاثين سنة فى الحكم، غير أن السياسة الأمريكية لم تجد صعوبة بعد سقوط هذه النظم فى أن تتبع ما يعتبر نتيجة واضحة للبديل الثانى، وما أحسب زيارة كيرى القاهرة إلا مرتبطة بهذا كله، وقد بدا متحسسا «لبطحته» فى كل تصريح أدلى به، فهو لم يأت إلى مصر لدعم المجموعة الحاكمة (بماذا نسمى إذن محاولات الضغط على «جبهة الإنقاذ» كى تتخلى عن موقفها المقاطع للانتخابات؟)، وهو كذلك لا يتدخل فى الشئون السياسية للشعب المصرى (بما نفسر كذلك لقاءه ممثلى القوى السياسية القائمة ــ بغض النظر عن الطابع الورقى لمعظمها ــ وكذلك بممثلى مجموعات الأعمال فى مصر ومنظمات حقوق الإنسان ووزير الدفاع القائد العام للقوات المسلحة؟). إنها «البطحة» التى كُتب على السياسة الخارجية الأمريكية أن تعيش بها طالما أنها لم تجد حتى الآن حلا للتناقض بين مبادئ الخطاب السياسى الأمريكى القائم أساسا على الديمقراطية وحقوق الإنسان وبين المواقف العملية للسياسة الخارجية الأمريكية التى تصادق أكثر النظم شراسة فى التنكيل بحقوق الإنسان وتتحالف معها من أجل تحقيق المصالح الأمريكية.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية