مجددا، يدلل اليمين الدينى المتطرف فى إسرائيل على عنصريته وعنفه ولا إنسانيته المتناهية تجاه الشعب الفلسطينى. مجددا، تدلل الحكومة الإسرائيلية الحالية بزعامة بنيامين نتنياهو على أنها التعبير السياسى المباشر عن جنون التطرف الدينى الذى يعتبر التوسع فى الاستيطان فى القدس الشرقية والضفة الغربية مسألة وجودية، ويروج لممارسات إجرامية جوهرها طرد الفلسطينيات والفلسطينيين من مدنهم وبلداتهم ترهيبا وحرمانا من حقوقهم الأساسية كسياسة تنتصر لإسرائيل الكبرى.
لم يكن البوجروم الفاشى (جرائم الحرق والتدمير والترويع) الذى أنزله مستوطنون ببلدة حوارة (جنوب نابلس) مفاجئا، ففى هذا الاتجاه يسير الأمر فى مناطق التماس بين المستوطنات وبين المدن والبلدات الفلسطينية. ولم تكن اعتداءات الشرطة الإسرائيلية على المصلين والمعتكفين فى المسجد الأقصى وإخراجهم منه لكى تقتحمه مجموعات من المتطرفين دينيا سوى إجرام يتكرر سنويا فى شهر رمضان الكريم وفى غير رمضان أيضا.
وفى الحالتين، بوجروم حوارة والاعتداءات فى جنبات الأقصى، بدت حقيقة التحالف العضوى بين اليمين الدينى المتطرف وبين حكومة نتنياهو فيما خص مواصلة الاستيطان واضطهاد الشعب الفلسطينى غير محل شك، تماما مثلما أظهرت «الإصلاحات القضائية» (أو الثورة كما يسميها اليمين) توافق الطرفين على تغليب يهودية إسرائيل على الطبيعة الديمقراطية الليبرالية للنظام السياسى الذى تأسس فى ١٩٤٨ وحافظ على التوازن بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وضمن للمواطنين اليهود (وليس عرب ١٩٤٨) الحقوق والحريات الأساسية.
وإذا كان الكثير من المواطنات والمواطنين اليهود المتخوفين من اختطاف اليمين الدينى المتطرف لإسرائيل قد عبروا بتظاهراتهم المستمرة منذ أسابيع عن رفضهم «للإصلاحات القضائية» التى تحاول من خلالها حكومة نتنياهو إلغاء استقلال القضاء، فإنهم لم يظهروا نفس الاهتمام بإدانة عنصرية وعنف اليمين تجاه الشعب الفلسطينى وتورط الحكومة إما فى تجاهل جرائم المستوطنين (حوارة مثالا) أو فى تمكينهم منها (اقتحام المسجد الأقصى مثالا). مواطنات ومواطنو إسرائيل الذين يتظاهرون دفاعا عن الديمقراطية والتوازن بين السلطات وحكم القانون ورفضا لدولة يسيطر عليها اليمين الدينى، هؤلاء الذين يحتشدون فى الميادين والشوارع احتجاجا على سياسات وقرارات حكومة نتنياهو يفعلون ذلك دفاعا عن حقوقهم وحرياتهم الأساسية التى أبدا لم يضغطوا بجدية لضمانها للشعب الفلسطينى إن داخل حدود إسرائيل ١٩٤٨ أو فى القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين منذ ١٩٦٧ إلى اليوم وقطاع غزة الذى تحاصره إسرائيل منذ أن انسحبت منه.
• • •
الانتصار للديمقراطية وحكم القانون فى ميادين وشوارع تل أبيب هو انتصار لحقوق وحريات تمتع بها دوما المواطنات والمواطنون اليهود وحرم منها دوما الشعب الفلسطينى، هو انتصار للقيم الليبرالية التى تسعى حكومة نتنياهو للتخلص منها فى الداخل لكى يفعل اليمين الدينى ما يحلو له فيما خص يهودية الدولة واضطهاد الشعب الفلسطينى ولكى يبقى نتنياهو فى الحكم دون ملاحقات قضائية متكررة. وفى هذا التناقض بين دفاع مستميت عن الديمقراطية الليبرالية داخل إسرائيل وبين قبول العنصرية والعنف والاضطهاد تجاه الشعب الفلسطينى الذى ترك طويلا لجرائم الاستيطان والتهجير والحصار، فى هذا التناقض يكمن الضعف الوجودى للمجموعات العلمانية والليبرالية واليسارية التقدمية التى تتظاهر ضد «الإصلاحات القضائية» لنتنياهو وبن غفير وسومتريش وحلفائهم ولا تعترض على الجرائم المرتكبة تجاه الشعب الفلسطينى.
لذلك وما أن أطلقت بعض الصواريخ باتجاه إسرائيل من جنوب لبنان، إلا وأمر نتنياهو الجيش الإسرائيلى بالإغارة على غزة. فالاعتداء عسكريا على غزة لدرء «خطر» الفصائل الفلسطينية يمثل إجمالا نقطة التقاء بين أنصار اليمين ونتنياهو وبين معارضيه الديمقراطيين والعلمانيين، ويبدو فى اللحظة الراهنة وبعد أسابيع من الاستقطاب الشديد بسبب «الإصلاحات القضائية» استراتيجية مثلى لاستعادة شىء من التوافق المجتمعى وإنقاذ شىء من شعبية الحكومة الحالية. ونتنياهو وبن غفير وسومتريش وحلفاؤهم يستغلون هنا تناقضات الديمقراطية والعلمانية والتقدمية الإسرائيلية التى تجمع بين جراءة الدفاع المستميت عن التوازن بين السلطات وحكم القانون وبين تأييد الاعتداء على غزة واستخدام القوة المفرطة ضدها وتجمع أيضا بين الحرص على الحقوق والحريات للمواطنات والمواطنين اليهود وبين قبول الإلغاء الكامل لحقوق وحريات الشعب الفلسطينى داخل حدود ١٩٤٨ وفى القدس والضفة حيث يهمشون قانونيا وسياسيا فى السياق الأول ويواجهون بوجروم المستوطنين وجرائم الطرد والتهجير فى السياق الثانى.
بعبارة أخرى، طالما ظل المجتمع الإسرائيلى، بجماعاته العلمانية والتقدمية وحماة الديمقراطية الليبرالية من جهة ويمينه الدينى المتطرف وجماعات المستوطنين ونخبة اليمين التقليدية المستعدة للتحالف مع الشيطان للبقاء فى الحكم من جهة أخرى، متقبلا لاستمرار الاحتلال والاستيطان والحصار وإلغاء الحقوق والحريات بحق الشعب الفلسطينى، سيتواصل صعود اليمين وتتواصل مساعيه لتغليب يهودية إسرائيل وتتواصل أزمة المؤسسات الديمقراطية الليبرالية وحكم القانون.
فقبول الاحتلال والاستيطان والتعامل مع بوجروم حوارة واعتداءات واقتحام الأقصى كأمور اعتيادية يصنع بيئة مجتمعية وسياسية جاهزة لاستيعاب الفكر المتطرف ونتائجه المختلفة من إلغاء استقلال السلطة القضائية إلى تغيير نظم التعليم المدرسى والجامعى لجعلها متسقة مع فهم رجعى للديانة اليهودية، ومن تكفير الجماعات العلمانية والتقدمية من اليهود إلى اعتماد الفصل العنصرى سياسة وحيدة تجاه كل الشعب الفلسطينى إن داخل ١٩٤٨ أو فى الأراضى المحتلة ١٩٦٧.
ليس للديمقراطية أن تستقر ولحكم القانون أن يضمن الحقوق والحريات للشعب الإسرائيلى فى ظل جرائم الاحتلال والاستيطان والفصل العنصرى التى تلغى حقوق وحريات الشعب الفلسطينى وتنزع إنسانيتهم تهميشا وطردا وتهجيرا وحصارا. وليس لمثل هذه التناقضات الحادة سوى أن تصنع بيئة مجتمعية وسياسية متطرفة وعنيفة لا أمل معها أبدا فى حل الدولتين.
أستاذ علوم سياسية، بجامعة ستانفورد