قبل أن تنضم اليونان لمنطقة اليورو، كان المستثمرون فى العالم يرونها كدولة ترتفع فيها المخاطر الائتمانية عن غيرها من دول أوروبا، بسبب ضعف أطر الحوكمة بالمقارنة بغيرها من الدول الأوروبية. بعد انضمامها لمنطقة اليورو، اختلفت النظرة بسبب الدور المتوقع لمنطقة اليورو فى إنقاذ اليونان من أى أزمة مالية، والإسهام فى دفع اقتصادها عبر الديون الدافعة للنمو.
بدأ المستثمرون ومؤسسات التمويل الدولية فى إقراض اليونان لدفع النمو بها، اقترضت ثم اقترضت وبمعدلات فائدة كانت منخفضة نسبيا عما كان عليه الحال قبل دخول اليونان لليورو، ولكن لم يكن الوضع قابلا للاستدامة؛ فوجود اليونان فى منطقة اليورو نفسه قيد حركتها فى مواجهة أزمة العجز فى الميزان التجارى ومشكلات العملة. واستمرت نسبة الدين للناتج المحلى الإجمالى فى ارتفاع حتى خلال سنوات النمو الاقتصادى 2003 ــ2007.
تفاقمت بشكل واضح الأزمة فى اليونان عام 2009، كنتيجة لمشكلات تزاوج العجز الهيكلى وارتفاع الدين العام كنسبة للناتج المحلى الإجمالى، تلتها أزمة ثقة فى السندات اليونانية وبعدها ارتفاع واضح فى أسعار الفائدة ليغذى العجز مرة أخرى، وتبدأ حلقة الأزمة التى لا تنتهى.
***
تدخل الدائنين الدوليين ممثلين فى اللجنة الأوروبية والبنك المركزى الأوروبى وصندوق النقد الدولى والمعروفين منذ ذلك الحين باسم «الترويكا» فى مايو 2010، بقرض بلغت قيمته 110 مليارات يورو لإنقاذ اليونان من الإفلاس بشرط اتخاذ مجموعة من الإجراءات التقشفية تتلخص فى تحقيق فائض أولى ( فائض الإيرادات عن النفقات مخصوم منها الفوائد المستحقة على الديون) فى الموازنة العامة للدولة يصل إلى 4.5% من الناتج المحلى الإجمالى، وإجراء «إصلاحات» هيكلية وإسراع فى وتيرة الخصخصة لبعض الأصول الحكومية.
حقيقة الأمر أنه فى أبريل 2010 كانت نسب السندات المستحقة للأجانب تمثل نحو 70% من السندات الحكومية فى اليونان، ومن ثم استخدمت جميع القروض التالية لحل الأزمة فى سداد المديونيات، فنحو 92% من أموال حزم الانقاذ ذهبت لمؤسسات التمويل الدولية والبنوك و8% فقط استفادت منها الحكومة اليونانية وفقا لإحصاءات تحالف مؤسسات جوبيلى الهادف لرفع الوعى بتأثيرات الديون السلبية على الاقتصاد. عولت المؤسسات الدولية على هذه «الاصلاحات» للحد من تفاقم عجز الموازنة العامة للدولة وخفض نسبة الدين العام للناتج المحلى الإجمالى بدءا من 2012/ 2013؛ واليوم يقدر صندوق النقد الدولى متطلبات اليونان من الفائض الأولى بنحو 7.2% لمدة عقد من الزمان للوفاء بمتطلباتها، وهو الأمر الذى يستحيل تحققه فى ظل العجز فى ميزان مدفوعاتها وارتفاع أسعار الفائدة والانكماش الاقتصادى، حتى وإن قدر الفائض الأولى المتحقق عام 2013/ 2014 بنحو 2.7% من الناتج المحلى الإجمالى؛ ليكون مؤشرا شاهدا على ما قامت به الحكومة اليونانية من اجراءات تقشفية بالفعل.
والآن مع نسبة ديون للناتج تفوق 175% فى عام 2015، ومعدلات بطالة أكثر من 25%، وتحول أزمة اليونان من أزمة اقتصادية لمعضلة سياسية، تسقط أداتان قام عليهما الاقتصاد العالمى، «الديون الدافعة للنمو» و«الدائن كملاذ أخير للمدينين»؛ وباعتراف المسئولين فى صندوق النقد الدولى، تضع اليونان نهاية لنظرية التقشف كوسيلة لسداد الديون؛ وتضع الاقتصاد العالمى أمام لحظة فارقة مهمة، لابد فيها من مراجعة أدواته الاقتصادية والبحث فى تناقضاتها، مثل كيفية تحقيق نمو مع التقشف، وفرص انتظار ازدهارا فى الدول الأضعف بشروط الدول الأقوى اقتصاديا مع احتكار الثانية لأدوات التمويل وخطط السداد.
***
من الضرورى أن نتعلم من دروس اليونان فى مصر فى ظل أزمة عجز ومديونية متفاقمة حيث زادت خدمة الدين العام كنسبة للناتج المحلى الإجمالى بشكل مطرد فى السنوات الأخيرة من 6.9% فى 2008/2009 إلى 14.1% فى 2013/2014 وفقا لبيانات وزارة المالية، وبمقارنة نسبة الدين العام من الوعاء الذى سيتم السداد منه وهو إجمالى إيرادات الدولة نجد أنه فى السنة المالية 2007/2008 كانت نسبة خدمة الدين العام (سداد الأقساط والفوائد المستحقة على الدين) من إجمالى إيرادات الدولة 25%، وزادت هذه النسبة تدريجيا حتى وصلت إلى 61% فى 2013/2014.
أما إذا تمت مقارنة خدمة الدين بإجمالى الإيرادات الضريبية فقط فنرى أنها زادت تدريجيا من 43.5% 2007/2008 إلى نحو 108% بل إنه وفقا لتوقعات وزارة المالية فى مشروع الموازنة الجديد فمن المتوقع أن تصل تكلفة خدمة الدين إلى أكثر من 122% من جملة الإيرادات الضريبية.
بعبارة أخرى، فإن ما يدفعه مجمل المصريين من جميع أنواع الضرائب (وهو المصدر الرئيسى لتمويل الدولة) لا يكفى الوفاء بمستحقات الدين العام من فوائد وأقساط؛ مع عجز أولى بقطاع الموازنة ارتفع من 1.8% فى عام 2008/ 2009 إلى 4.5% فى عام 2013/ 2014. إذا كان الجانب الأكبر من هذا الدين محليا، إلا أنه امتص غالب السيولة المصرفية، وتتجه الدولة لإصدار سندات دولارية؛ ومحاولات متعددة لخفض عجز الموازنة العامة بها دون جدوى حقيقية خاصة إذا تم استبعاد تأثير الصدفة فى تراجع أسعار النفط عالميا فى العام الماضى. فى الوقت نفسه تراجعت نسبة الإيرادات الحكومية للناتج المحلى الإجمالى من 27.2% فى عام 2008/ 2009 إلى 22.9% فى عام 2013/ 2014 برغم تدفق الإيرادات فى صورة منح من دول الخليج فى هذا العام.
***
فى ضوء كل هذا، كيف يمكن السيطرة على عجز الموازنة ومن ثم تراكم الدين العام بدون تقشف يؤدى إلى تباطؤ أو انكماش اقتصادى كما يحدث فى اليونان، أو تضخم جامح كنتيجة لطبع النقود وزيادة الضرائب على السلع والخدمات والدخول الدنيا. يبدو أن الحل الوحيد أمامنا حاليا من أجل الاستدامة المالية هو العمل على زيادة بند الإيرادات بدلا من تخفيض بند النفقات لتفادى إحداث تباطؤ أو انكماش اقتصادى خاصة وأن المصروفات الحكومية تمثل نحو 30% من الناتج المحلى الإجمالى، فأى تخفيض فيه سيكون له بالغ الأثر على معدلات النمو بلا شك، ومعدلات النمو المرتفعة ضرورية لقدرة الدولة على خدمة الدين بشكل مستدام. والأهم أنه لابد من إعادة النظر فى هيكل المصروفات من منطلق القضاء على المصروفات والبنود المرتبطة بوجود قنوات الفساد وإهدار المال العام، وليس خفض المصروفات لأجل خفضها وبشكل يؤدى إلى المزيد من التدهور فى مستويات الخدمات العامة والحماية الاجتماعية.
تقوم الحكومة بالفعل فى زيادة الإيرادات العامة لكنها تقوم بها بشكل يقوم بتوسيع الفجوة أكثر بين الأغنياء والفقراء والتقليل من القدرة الشرائية للقطاع الأعرض من المواطنين عن طريق زيادة الضرائب على السلع والخدمات وهو ما قد يؤثر على معدلات النمو الحقيقى، ويرجع هذا إلى عدم القدرة على تحصيل ضرائب مباشرة من الأغنياء لأسباب يطول شرحها، فتضطر الحكومة لزيادة الاعتماد على الضرائب غير المباشرة، ففى العشرين عاما الأخيرة زاد الاعتماد على ضريبة السلع والخدمات، وهى الضريبة غير المباشرة الأبرز فى الموازنة، من 27.1% من إجمالى الحصيلة الضريبية فى موازنة 1995/1996 إلى35.3% فى موازنة 2013/2014 مع إعلان وزارة المالية عن وصولها إلى 40% من إجمالى الحصيلة الضريبية فى الفترة ما بين يوليو 2014 وأبريل 2015.
***
وكما أظهرت لنا اليونان فالتقشف الزائد يعنى نموا أقل، وقدرة أقل على الوفاء بالتزامات المديونية ويصطدم بتراجع التوقعات حول الحصيلة الضريبية ومن ثم الإيرادات كنسب للناتج المحلي؛ النظرة لحالة اليونان يضعنا يقينا أمام عدم إمكان التعويل على التقشف أو جذب الأموال الأجنبية مهما كان شكل بيئة الحوافز الممنوحة وما تمثله من خسائر للاقتصاد المصرى، فلابد من حلول تعيد النظر لدور الإيرادات العامة فى تشكيل العجز والنمو، وتتخطى نظريات دفع النمو بالدين ومعاملة العجز فى الموازنة العامة كظاهرة محاسبيه.