فى كليهما استبداد - إبراهيم الهضيبى - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:48 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى كليهما استبداد

نشر فى : الجمعة 7 ديسمبر 2012 - 9:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 7 ديسمبر 2012 - 9:00 ص

لئلا يتراجع الرئيس عن الإعلان الدستورى سارعت الجمعية التأسيسية بالانتهاء من مسودة الدستور، فصار الشعب أمام خيارين، أولهما دستور لم ينضج، يرسخ الاستبداد ــ العسكرى والمدنى ــ ويقوض الديمقراطية، وثانيهما إعلان دستورى يرسخ الاستبداد بجمع السلطات فى يد الرئيس، والقبول بأيهما يمثل انتكاسة للثورة.

 

صدر الإعلان الدستورى فجأة، وبإرادة منفردة من الرئيس، ليتعامل لا مع أزمة المؤسسة الأمنية التى رآها الثوار المطلب الأهم (خاصة فى ظل مواجهات محمد محمود)، وإنما مع أزمة مرفق العدالة، لا بإقالة النائب العام (مادة 3) فحسب ــ وهو مطلب حقيقى للثوار ــ وإنما بتعطيل مراقبة القضاء على قرارات الرئيس (مادة 2)، ومنحه صلاحيات للتدخل المتجاوز لصلاحياته الأصلية من غير ضوابط واضحة (مادة 6)، وهو ما يعنى ــ عند إضافة السلطتين التشريعية والتنفيذية اللتين اجتمعتا للرئيس ــ حيازته سلطة مطلقة.

 

والمستقر فى العلوم الاجتماعية بالاستقراء أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ويلزم من المقدمتين السابقتين أن الإعلان الدستورى أسس لمفسدة مطلقة، ولا يرد على ذلك كونه مؤقتا؛ فحيازة تلك السلطة تتيح تغيير الأوضاع قبل العودة لوضع الأصلى على نحو يصعب علاجه، ولا يرد عليه الثقة بالرئيس، فتعليق مستقبل الوطن بأمل الاستثناء من قاعدة مستطردة هو من قبيل الوهم.

 

تحدث الرئيس للتليفزيون عن «ضرورات» استدعت إصدار الإعلان، ففاته بيان الضرورات، مما الذى يثير شكوكا حول وجودها وجديتها، خاصة مع تأكيده أن ما لديه هو «معلومات لا ترقى لدرجة الأدلة»، والأصل أن اليقين لا يزول بالشك، فاليقين أن الإعلان مفسدة مطلقة، ووجود الضرورة مشكوك فيه، ثم إن الضرورة تقدر بقدرها، وقدرها لا يكون إطلاق اليد فى الممنوع بلا قيد، على النحو الذى منحه الرئيس لنفسه.

 

أدى الإعلان لانقسام مجتمعى، بمليونيات مؤيدة وأخرى معارضة، واختارت القيادة السياسية الهروب للأمام، وتجنب مراجعة الإعلان بإنهاء أمده عن طريق التعجيل بالاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، فأنهت اللجنة عملها قبل موعدها، رغم أن الإعلان ذاته كان قد مد فترة عملها شهرين إضافيين (مادة 4)، وأنتجت دستورا يرسخ الاستبداد ويقوض السيادة الشعبية.

 

المواد المتعلقة بالقوات المسلحة تخرجها عن نطاق السيادة المدنية، بجعل الوزير من ضباط الجيش (مادة 195) بما يخرج المؤسسة عن السيادة المدنية المباشرة، وبقصر حق مناقشة ميزانية القوات المسلحة (بما فيها ميزانية الأنشطة التجارية والخدمية والصناعية غير العسكرية) على مجلس الدفاع الوطنى، الذى يضم فى عضويته ثلاثة منتخبين من بين خمسة عشر عضوا، منهم سبعة من العسكريين ورئيس المخابرات، (مادة 197)، على نحو يقوض بوضوح السيادة الشعبية.

 

وثمة مواد تقوض الديمقراطية، بمنع سيادة الشعب على المؤسسات المنتخبة، إذ ليس ثمة وسيلة يمكنه بها التدخل لرفض أو اقتراح تعديل قراراتها لو لم تكن موافقة لرغبته، كما فى الدستور الإيطالى الذى يوجب على البرلمان مناقشة مشروعات القوانين التى وقع عليها خمسون ألف مواطن (مادة 71)، والدستور السويسرى الصادر سنة 1874، الذى يعطى للمواطنين حق طلب تغيير الدستور بتقديم مائة ألف مواطن لطلب يجب وقتها طرحه للاستفتاء (مادة 120)، وإنما تبقى هذه المؤسسات محصنة ضد الشعب طوال مدة عملها، فلا يستطيع الناخبون عزل نوابهم، وإنما تملك المؤسسات هذا الإسقاط (مادة 112)، فى دستور يأتى عقب ثورة مارس فيها المصريون بشكل مباشر سلطانهم السياسى.

 

ومن تقويض سيادة الشعب على المؤسسات المنتخبة تحجيم اللجوء إليه عند الخلاف، إذ يوجد الدستور آليات مفصلة لعلاج أى خلاف تشريعى بين مجلسى النواب والشورى (مادة 103)، أو بينهما وبين رئيس الجمهورية (مادة 104)، بعيدا عن العودة للشعب، ولا يلجأ للشعب إلا عند الفشل فى تسمية حكومة لمدة ثلاثة أشهر (مادة 139)، الأمر الذى يعنى استمرار التعامل مع الشعب باعتباره قد «فوض» المؤسسات «على بياض»، ولم يعد له حق التدخل، فيما الدستور الدنماركى ــ على سبيل المثال ــ يعطى لثلث أعضاء البرلمان حق رفض مشروعات القوانين وطرحها فى استفتاء شعبى (مادة 42)، والدستور الألمانى الصادر سنة 1949 يعطى للمجلس الاتحادى (الهيئة التشريعية الممثلة للمقاطعات على المستوى الاتحادى) الحق فى رفض القوانين الصادرة عن المجلس التشريعى (مواد 78 و84)، والأمثلة على ذلك كثيرة.

 

وتبقى مسودة الدستور الأبواب مفتوحة أمام القمع والاستبداد، إذ تسمح فى بعض الأحوال غير المعرفة بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية (مادة 198)، وتتوسع فى استخدام مفهوم «الأمن القومى» من غير تعريفه للحد من الحقوق والحريات، ولفرض الإجراءات القمعية.

 

ولم يعالج الدستور المظالم الاقتصادية القائمة، فجاءت المواد المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية (من 58 إلى 73) أقرب للشعارات، بعيدة عن آليات تحصيل هذه الحقوق، والتى تنص عليها الدساتير الجادة فى علاج أزمات العدالة الاجتماعية (كالمواد من 6 إلى 11 من دستور البرازيل، وفيه المادة السابعة وحدها تحدد أربعة وثلاثين حقا اجتماعيا وكيفية تحصيلهم)، وإن كانت ــ فى مجملها ــ أفضل من نظيرتها فى دستور 1971، وظهرت انحيازاته الاقتصادية فى إطلاق حريات تأسيس الأحزاب والجمعيات الأهلية بالإخطار (مادة 51)، مقابل منع التعددية النقابية، ووضع قيود أشد على إنشاء النقابات (مادة 53).

 

وإذا كان بعض هذه المواد قد عبر عن انحيازات للدستور لا تتماشى مع سياقه الثورى، فإن غيرها يدل على أن المسودة لم تنضج بالقدر الكافى، لا بسبب قصر الوقت، وإنما بسبب الانشغال بقضايا صورية مسبوقة فى الأولوية، ومن ذلك إهمال تعريف شروط استحقاق الجنسية وإحالة ذلك للقانون ــ أى للأغلبية السياسية المؤقتة ــ (مادة 32)، مع كون الجنسية ركن المواطنة، والتى يجعلها الدستور مناط الحقوق والواجبات جميعا لا السياسية فحسب.

 

وقد حملت جلسة التصويت على المسودة شواهد على الأمرين: عدم النضج للتعجل، والتقويض الواعى السيادة المدنية، فمناقشة المادة (139) ــ والتى اعترض عليها عدد يوجب إعادة طرحها للمناقشة بعد يومين ــ شهدت تحذيرا من رئيس الجلسة بأن الاعتراض يؤدى لهذا التأجيل، فتنازل عدد من المعترضين عن اعتراضاتهم ليتم الانتهاء من الدستور فى اليوم ذاته، كما أن مناقشة المادة (197) شهدت مشادة تحدث فيها الممثل العسكرى رافضا أى زيادة فى عدد المدنيين فى مجلس الدفاع الوطنى قائلا: «لو زودتهم واحد هنزود واحد»، وهذه المشاهد وغيرها تكفى للتدليل على طبيعة البيئة الاستبدادية المتعجلة التى حكمت صناعة دستور يفترض أن يعبر عن مصر الثورة.

 

التعجيل بالاستفتاء فى هذا الوضع، هو تخيير للشعب بين قبول دستور يخلط بين الاستبداد وعدم النضج، أو رفضه والعودة إلى إعلان دستورى استبدادى، وهو ما يعنى سد السبل الانتخابية أمام الديمقراطية وسيادة الشعب والعدالة الاجتماعية، وتكرار أخطاء النظام السابق بخسارة المشروعية السياسية، والتى لا تقاس بأعداد المحشودين فى المظاهرات فحسب.              

التعليقات