البعض فى مصر يتصورون أننا بصدد تأسيس دولة الخلافة الإسلامية، وبيننا آخرون يصرون على أن تكون دولة علمانية نافرة من الدين ومخاصمة له. والأولون غير قادرين على استيعاب حقيقة أن الخلافة تجربة تاريخية ليست واردة فى زماننا، والآخرون غير مستعدين للاقنتاع باستحالة تطبيق مشروعهم فى بلد يغلب عليه التدين كمصر. بالتالى فلا معنى للتجاذب الحاصل بين الطرفين سوى أنه عراك يمثل عبثا يستهدف إهدار الوقت واستهلاك الطاقات وتبديدها، ومن ثم تعطيل التقدم باتجاه إقامة الدولة الوطنية الديمقراطية.
لا أتحدث فى الشريحة الأولى عن جماعة التحرير الذين يزايدون على الجميع بالدعوة إلى إحياء الخلافة الإسلامية، ومن ثم يعفون أنفسهم من أى نضال على الأرض يتحرى مصالح الناس أو يدافع عن حقوقهم، فى طرح ساذج يتصور أن تغيير مسمى النظام كفيل تلقائيا بحل كل مشاكله. وإنما أتحدث عن تمسك بعض السلفيين بإعادة صياغة المادة الثانية من الدستور بحيث تنص على مرجعية أحكام الشريعة وليس مبادئها فقط كما هو حاصل الآن.
هذا الموقف من مسألة المرجعية برز فى مصر بعد أسابيع قليلة من تناول الموضوع فى تونس، وجاء كاشفا عن منهجين مختلفين من الإدراك والتفكير. ذلك أنهم فى تونس قرروا الاكتفاء بالنص فى الدستور على أن الإسلام دين الدولة، واستبعدوا مسألة الشريعة من الصياغة. وفى تفسير ذلك قال الشيخ راشد الغنوشى رئيس حركة النهضة إن النص على أن الإسلام دين الدولة يكفى فى تحديد هويتها وانتمائها الدينى. وأضاف أن الحركة حين وجدت أن النخب حساسة إزاء مسألة الشريعة، فإنها قررت استبعاد الإشارة إليها تجنبا للشقاق وحفاظا على وحدة الجماعة الوطنية.
الغنوشى حين اختار هذا الموقف فإنه فكر بعقل السياسى المسئول الذى يحسن قراءة الواقع ويضع وحدة الوطن نصب عينيه. أما إخواننا الذين يصرون على استبعاد مصطلح المبادئ وإحلال كلمة الأحكام محلها، فإنهم فكروا بعقلية الدعاة الذين يعيشون فى التاريخ ولا علاقة لهم بالواقع ولا بالوطن. والفرق بين المنهجين يعكس الفرق بين عقل مفتوح وبصيرة نافذة وبين عقل ضيق ومغلق وعينين مغمضتين.
من الناحية الموضوعية فإن المبادئ بمعنى المقاصد العليا أهم من الأحكام التى تتجلى فى التفاصيل. ذلك أنه يفترض فى التفاصيل أنها وسائل تؤدى إلى تحقيق الأهداف. أدرى أن الالتزام بالاثنين هو المطلب الأمثل والحد الأقصى. أما إذا طرح الاختيار بينهما فإن الانحياز إلى الأهداف أولى. ذلك أن الاكتفاء بالوسائل أو الأحكام يمكن أن يهدر المبادئ ويفرغها من مضمونها. وفى العالم العربى حاليا أقطار يعرفها الجميع التزمت بالأحكام وتشددت فى تطبيقها فى حين لم تلتزم بشىء من الأهداف. ومنها من طبق الحدود الشرعية مثلا، ثم ضرب عرض الحائط بمبادئ الحرية والمساواة والعدالة وحرمة وكرامة الإنسان. وفى هذه الحالة فإن تطبيق الأحكام يبدو وكأنه صيغة مراوغة لإخفاء انتهاك المبادئ، خصوصا أن تطبيق الأحكام يجرى تنزيله على الناس العاديين. أما الالتزام بالمبادئ فهو مسئولية أهل القرار والسلطان. بكلام آخر فإن الدعوة إلى تطبيق الأحكام فى الظروف الراهنة تفتح الباب لإعفاء أهل القرار من مسئولية ادفاع عن القيم الأساسية التى يقوم عليها المجتمع، وإطلاق أيديهم فى العبث بها وانتهاكها.
العقل العلمانى المغلق لا يختلف كثيرا عن نظيره فى الساحة الإسلامية. والطرفان يشتركان فى الإصرار على فرض أجندتيهما على المجتمع. وفى فشلهما فى قراءة الواقع. والاثنان ينشغلان بالهويات لا بالسياسيات. ولا فرق فى هذه الحالة بين الذى يصر على فرض أحكام الشريعة على المجتمع. وبين ذلك الذى يصر على شطب الهوية الإسلامية من المجتمع.
قرأت مقالة لأستاذ جامعى محترم امتدح خطبة الرئيس محمد مرسى لسبب واحد أنه لم يأت على ذكر الشريعة الإسلامية فيها. وانتقد مؤرخ معتبر قرار الرئيس تشكيل «ديوان المظالم» بدعوى أن التسمية تراثية ومحملة بإيحاءات إسلامية تتعارض مع التزامه بالدولة المدنية (فى موسوعة ويكيبيديا أن ديوان المظالم هو أقرب الترجمات لمطلح «امبودزمان» أو المفوض الشعبى والبرلمانى المعمول به فى السويد وطبقته دول أخرى). وهى ملاحظة غريبة للغاية. لأن الأكاديمى المحترم لم ينشغل بمظالم الناس، ولكنه استنكر فقط الإيحاءات الإسلامية فى المصطلح. وربما غفر له ذلك «الذنب» لو أن الرئيس استخدم المصطلح المتداول فى اللغة السويدية.
تحفل الصحف بالكثير من هذه النماذج كل يوم، التى يضيق المجال عن ذكرها، إلا أن أسوأ ما فى هذا التجاذب أنه بمثابة صراع بين نخب المتعصبين وضيقى العقول المهجوسين بحساباتهم وأجنداتهم الخاصة، والذين لا تشغلهم هموم الناس من قريب أو بعيد. وللأسف فإن قوة التأثير الإعلامى تنقل ذلك الصراع إلى الرأى العام فتقسمه وتشوهه وتصرفه عما هو نافع فى مرحلة يحتاج الوطن فيها إلى عزائم المخلصين الجادين وليس إلى نزق المتعصبين وهرج العابثين.