لى أيامٌ ألتقى بأصدقاءٍ ومعارفٍ وغرباء، أناس أعرفهم جيدا وآخرون أقابلهم للمرة الأولى، لا يجمع بين معظمهم إلا ذاك الشعور بالتهديد. كُلُّ شخصٍ مُختلف قابلته كان يُدرِك أنه مُهَدَّدٌ بشكلٍ مِن الأشكال. طُلاب، موظفون، باحثون، عاملون فى مراكز حقوقية، صحافيون؛ رجال ونساء. الشخص المُهَدَّد بأذى ما؛ هو كالعادة صاحب الصوت النشاز وسط جوقة الإنشاد المتناغمة، والجوقة الحالية تعزف لحنا يَحسَبُه المُهَدَّدون رقيعا؛ ويعترفون لذلك بعجزِهم عن مُجاراتِه. يشذّون عنه فيصبحون مضطهدين.
يلتحق بزُمرة المُهَدَّدين أشخاصٌ جُدُد كلّ يوم، فالأمر لم يَعُد قاصرا على مَن يُجاهِر بالاختلاف؛ مَن يَطَاله التهديد الآن ليس صاحب النغمة المتباينة فقط، بل هو كل مَن لا يقوم بالمشاركة فى العزف بحماسة، وبالتمايل طربا مع الأصوات الصادرة. بعض الموالين للسلطة انتقلوا إلى خانة المُهَدَّدين بسَوطِها، لا لشيء إلا لأنهم كَفوا للحظات عن أداء دورهم فى الإنشاد.
يتساءل المُهَدَّدون كلٌ فى مجاله عن جدوى الاستمرار، وعن اختيار توقيت الانسحاب: هل مِن الأفضل أن أتوقف ومتى؟ بعضُهم يحسمُ أمره ويَتَّخذُ القرار سريعا، والبعضُ الآخر يفكر فيه ويُعيد التفكير، لكن الدائرة التى تضيق يوما فيوم، لا تترك للتفكير فسحة، تُجبِرُ أغلبَ الناسِ على إيثار السلامة.
•••
خلال أشهرٍ قليلةٍ ماضية، قام طالب متفوق فى مسابقة دولية للعلوم والهندسة، بتقديم طلب لجوء سياسيّ إلى الدولة المضيفة، لشعوره بأنه مُهَدَّدٌ بالاعتقال حال عودته إلى مصر. بعضُ مَن دافعوا عن حقوقِ الناسِ لسنوات طويلة لمسوا إن حقوقهم هم أنفسهم وسلامتهم باتت مُهَدَّدة، ومُعَرَّضة للإهدار فى أى لحظة، فغادروا إلى بلدان أخرى. أطباءٌ كُثرٌ بينهم زملاء وصحاب مُقَرَّبون أدركوا الأمر ذاته، وخرجوا يفتشون عن مكانٍ أقل تهديدا، يجوز أن يتكلم المرء فيه دون أن تُشرع فى وجهه السيوف. لا حاجة لأسماء وأعمار، لا حاجة للإحصاء، ففى ظنى إن لكل منا بين معارفه وأصحابه مثل هؤلاء.
أَسَرَّت لى صديقة نقلا عن أخرى بإجابة السؤال المطروح: ماذا نفعل إذن فى ظِلِّ هذه الأجواء، التى تكفَهِّر أمام كل مَن يمتنع عن ترديد النشيد الجماعيّ؟ أَقَرَّت بداية بأن الأوضاعَ سيئةٌ، وبأنها سوف تزداد سوء قبل أن يأتى الحلّ، ثم قالت إنه على هؤلاء الذين لا يزالون فى مُقتَبَلِ العُمر مُغادرة البلد فورا، أما مَن جاوزوا مرحلة الشباب فعليهم البقاء وخوض مَعركة الحُرِّية حتى النهاية، إذ لا مستقبل يرومونه فى الخارج، ولا حلول أخرى ممكنة. المُهَدَّدون الأكبر سنا ينصحون الأصغرَ بالفرار حفاظا على أنفسهم، وبحثا عن مستقبلٍ أقلّ إيلاما، تكفله لهم مجتمعات أنضج وأقلّ شراسة.
•••
المَسار الذى اختارته السلطةُ واضح، لكن المُنتهى لا يبدو بدرجة الوضوح نفسها، ما يفعله جنرالات الحرب كل يوم، وما لا يسأل عنه الآخرون، يشير إلى أيامٍ قادمةٍ مصبوغة بالدماء والعنف، فهؤلاء الذين يشعرون بالتهديد فى ظِلّ قراراتٍ وأحكامٍ وقوانين صادمة، سوف يستجيبون للضغوط بطريقة ما، وإذا كانت الاستجابة المناسبة لدى البعض هى الانسحاب أو الفرار، فهناك مَن لا يملكون قطعا هذا الترف.
•••
الدائرة التى تضيق لا تدفع المُهَدَّدين إلى الفرار فقط، لكنها تُفرِز أسئلة جديدة وتُعيد اختبارَ التعريفات. فَكَّرت طويلا فى ماهية الشخص الذى يُمكن وصفُه بالاحترام، كان أحد التعريفات البديهية التى سمعتها مِمَن طرحت عليهم السؤال؛ إنه هذا الشخص الذى يَتَمَسَّك بمبادئه ولا يغير مواقفه حتى النهاية بغَضِّ النظرِ عن الضغوط. تعريفٌ آخر: إنه هذا الشخص الذى لا يَسلُك نقيضَ ما يقول. أتصور إن هذه التعريفات لم تعُد صالحة للتداول الآن، فقد اختلَّت المعايير حتى خَلخَلَت المفاهيم نفسها؛ التَخَلّى عن المبادئ عَودةٌ مَحمودةٌ للحقِّ والصواب، ومُنَاقضةُ القولِ شجاعةٌ وجرأة. الدائرة بالفعل تضيق؛ فهل يدعو ضيقها إلى إعادة تعريف المفاهيم وضبطها بما يتلاءم مع الواقع الجديد؟
•••
تتراوح التهديدات بين الماديّ والمعنويّ، ومِن العسير الجَزم بكون أحدهما أنكى وأشدّ وطأة مِن الآخر، السجن وتقييد الحُرية مِن ناحية، ومِن الناحية الأخرى تشويه السمعة، وتَحطيم الصورة التى ربما قضى صاحبُها سنوات عمره فى بنائها والحفاظ عليها. بين الحين والحين تأتى مَواسمٌ شاقة، لكن المأثور يُؤَكِّد أنّ مَن يَتَحَمَّل دون أن يتعرض للكسر، يَعبرُ المِحنةَ أكثرَ قوة، وأشدّ قدرة على الصمود وربما الانتصار. رغم ما للتهديدات مِن وَقعٍ مُريع، رغم سوء الأوضاع وجِدِّية الخطر، رغم إيثار نسبة غير قليلة مِن المُهَدَّدين للرحيل أو الانعزال والصمت، رغم الإعلان الرسميّ عن أوان الانسحاب والانكفاء على الذات، فعن نفسى أحسبه أوانا للمقاومة ورفضَ الانكسار.