كان صديق عزيز فى طريقه إلى أحد الكافيهات الشهيرة بوسط القاهرة لحضور اجتماع مع مجموعة من الناشطين فى مجال العمل الأهلى، الرجل لا خبرة له على الإطلاق بوسط القاهرة وشوارعها، قضى جزءا كبيرا من عمره فى الخارج، والجزء الآخر لا يبرح ضاحية مصر الجديدة وجوارها، لذلك كان مضطرا أن يسأل عن المكان الذى يقصده.
توسم الصديق فى بائع يبدو ملتزما وسأله عن المكان المقصود، فرد عليه البائع: «هو هنا فى هذا الشارع لكننى لا أستطيع أن أدلك عليه»
تعجب الرجل من الرد، وفى الوقت نفسه تحسب أنه ربما يقصد مكانا قد يلحق ضررا بسمعته، فاستفسر منه عن سبب امتناعه فقال له البائع: «لعن الله صانعها وناقلها وشاربها.. واللى يشاورلك عليها»، وأضاف: «ده بيقدم خمور وبيرة».
رد عليه الصديق أن المكان إلى جانب ذلك يقدم خدمات أخرى تقليدية، مأكولات ومشروبات، وليس شرطا أن كل من يرتاده مدمن خمر، وقال له أنا شخصيا سأتناول القهوة مع بعض الأصدقاء وجميعهم لا يتناولون أى كحوليات، لكن ذلك لم يكن مقنعا للبائع الذى رفض تماما أن يشير بإصبعه للمكان، فما كان من الرجل إلا أن سأله، هل تعرف أين أجد المحل المجاور لهذا الكافيه؟ فأشار له البائع على مكان المحل ووصل صديقى إلى مقصده، فيما البائع راضٍ أنه لم يأثم حتى وهو يعلم أن النتيجة النهائية أنه دل الرجل على مقصده ولو بشكل غير مباشر.
تفتق خيال صاحبى إلى حل «توافقى» لأزمته الصغيرة، لم يحاول أن يسفه من إيمان البائع ولا تمسكه بمبدأ حتى لو رأى فيه مغالاة أو تزيدا وإضافة من قلب فهمه للحديث الشريف، والأرجح أن الرجل كان يفهم المقصد من تغيير السؤال من أين الكافيه؟ إلى أين المحل المجاور للكافيه؟، ووجد فيه حلا لغريب يسأل، والمؤكد أنه سيؤجر إن دله، وهو يعلم قطعا أنه «لا تزر وازرة وزر أخرى».
بعض الأزمات فى بلادنا وما أكثرها تحتاج إلى خيال حقيقى من جانب وإلى إطار من الثقة وافتراض حسن النية فى جانب ثان، وأى حوار ترجو من ورائه نتيجة لابد أن يستلهم فى القلب منه مثل هذا النموذج الذى حقق مصلحة الطرفين المتحاورين فى الشارع، فدل الرجل على مقصده، ومنح الثانى تخريجا يبدو شرعيا لتزيده، البائع رغم قناعاته تلك لم يستقبل الرجل باتهامات الانحلال والفجور، لم يفتش فى ضميره ويسأله ماذا ستفعل هناك وهل ستشرب بيرة أم قهوة؟ لم يركز فى إيمان من يقف أمامه، ولم يحدثه بسوء ظن، هو فقط انشغل بإيمانه وبقناعاته، وبحرصه على تطبيق هذه القناعات على نفسه أولا، دون أن يقتحم حياة الطرف الثانى لا بتفتيش أو تخوين ولا بتكفير وتأثيم، فى مقابل رجل عاقل كان يمكن أن ينصرف عنه ويسأل غيره، لكنه وجد حلا يحترم قناعات محاوره، ويحقق مقاصد الجميع دون غالب ولا مغلوب.