قدرت أن الأزمة الدبلوماسية الناشبة بين حكومة الإخوان المسلمين وحكومة دولة الإمارات لن تسوى بسرعة أو ببساطة، وكانت لدى أسباب ومعلومات وراء هذا التقدير. قدرت أيضا أن الأزمة، وإن اشتعلت فى البداية بين جماعة دينية سياسية فى دولة من جهة وحكومة أجنبية من جهة أخرى، أى بين طرفين غير متساويين، إلا أنها كما أتصور، أزمة مرشحة لأن تتصاعد فتصبح أزمة بين دولتين، وتتصاعد أكثر فتجذب إلى ساحتها أطرافا أخرى، وبخاصة أطراف فى منطقة الخليج.
التقيت قبل يومين عددا من أهل الرأى والفكر فى العالم العربى وقضينا ساعات نقلب الأمر على وجوهه المختلفة. توافقنا على أن للأزمة خلفيات لا يدرك حساسيتها إلا من اقترب جدا من مراكز صنع القرار الأمنى فى الدولتين ودول أخرى. بدأت عواصم عربية، حسب رأى واحد من أهل الاطلاع، تتحسس خطرا قادما من مصر تحديدا، تدعمه وتزيد من خطورته انبعاثات ايديولوجية صادرة من تونس. ضاعف الشعور بالقلق أن دولة من دول الخليج تقدم دعما ماديا وحفزا سياسيا وإثارة دينية، هذه الدولة قررت أن تؤدى دورا، ربما بتصور ما زال غير واضح تماما للمراقب من الخارج ولكثير من صناع السياسة والقرار فى الدول الشقيقة ودول الجوار. هناك آخرون، وأنا واحد منهم، يعتقدون أن بعض القلق مصدره حقيقة بسيطة هى أن عددا متزايدا من قوى السياسية والدين فى العالم العربى، وفى دول الجوار، تحاول أداء دور فى عملية صياغة مستقبل جديد أو فى إحباط هذه العملية.
•••
ثورة أو أكثر من ثورات الربيع، سواء تلك التى نشبت فى تونس أو فى مصر أو فى سوريا أو فى اليمن، هددت حال «الاستقرار المثالى» الذى تمتعت به منطقة الخليج لسنوات طويلة. كان يمكن أن يمتد أجل هذا الاستقرار لو تأخر نشوب الثورات، أو انطفأت فور اشتعالها بفعل فاعل خارجى أو بفعل داخلى أو خانها أبناؤها فقصروا فى حقها.
أتصور أنه خطر على أذهان البعض فى دولة أو أكثر من الدول العربية التى فاتها إعصار الربيع أنه ربما كان ممكنا الجمع بين الاثنين: تحصين الوضع الداخلى وتأمين الاستقرار السياسى فى هذه الدول التى لم تنشب فيها ثورات بتوفير زيادات فى الأجور والمنح، وفى الوقت نفسه العمل على تغيير طبيعة الثورات فى دول الربيع بحيث يمكن التأثير فى مساراتها بالتدخل المباشر عن طريق دعم الفئة أو الجهة القادرة على قيادة التغيير أو بالتوجيه الإعلامى والدعوى بثا من الخارج وتجنيدا من الداخل. وبالفعل فقد اهتدت إحدى هذه الدول إلى فكرة تشجيع التيارات الدينية التى شاركت فى الثورات فى مرحلة أو أخرى لتتولى القيادة والحكم وإن على حساب دوافع وأهداف الطليعة التى أطلقت الشرارة الأولى. هكذا كنا، فى مصر وتونس، على الأقل، شهودا على دعاة وفقهاء دين معروفين يتقدمون الصفوف ليتولوا بأنفسهم مقاليد السياسة. ترك أكثرهم أمور الدين ورعاية منظومة الإيمان التى تخصصوا فيها وبرزوا لينتبهوا إلى أمور الدنيا واختاروا من هذه الأمور أكثرها ابتعادا عن تجاربهم وخبراتهم وأخلاقهم، اختاروا السياسة.
•••
تطرح الأزمة الإماراتية المصرية ثلاث مجموعات من الأسئلة تشغل الآن تفكير مثقفين وسياسيين فى أنحاء الشرق الأوسط. المجموعة الأولى من الأسئلة تركز على المواقف العاجلة التى يمكن أن تنتهجها بقية الدول العربية عموما، والخليجية بخاصة، لتسريع عملية التمشيط التى بدأت فى عدد من الدول بغرض التأكد من حجم وعدد التنظيمات والخلايا التى أقامتها جماعة الإخوان فى كل دولة، وتحديد طبيعة وكثافة شبكة الاتصالات والعلاقات التى تربط بين فروعها فى أنحاء العالم العربى وخارجه وبين هذه الفروع والقيادة فى مصر.
المجموعة الثانية من الأسئلة تلاحق التوتر الواضح الذى يلحظه المراقب الخارجى على الساحة العربية عموما والخليجية خصوصا، وحال الالتباس فى فهم بعض المسئولين العرب لطبيعة العلاقة التى يمكن أن تقوم فى المستقبل بين أى دولة من دول المنطقة وهذه الجماعة، سواء بقيت قيادتها تحكم مصر أو عادت إلى موقع المعارضة، ولكن بقوة وبمنهج أو مناهج مختلفة من العمل السياسى والدعوى.
المشكلة هنا كما حددها أحد هؤلاء المسئولين أمامى تكمن فى نوع وطبيعة العلاقات المراسيمية والأمنية، بمعنى آخر هل ستتحمل «الدولة المصرية» ذات المصالح والتعهدات المتنوعة مسئولية أى تصرفات سياسية غير قانونية تمارسها جماعة «أهلية» مصرية على أرض أجنبية. يقول المسئول الكبير « فى بلدى لم نلحظ من قبل من جانب هذه الحكومة أو حكومات أسبق اهتماما مناسبا بشئون رعاياها فى الخارج»، الأمر الذى يجعلنا وغيرنا من المسئولين الخليجيين أشد حرصا وعجلة لمضاعفة الجهد لوضع أسس لعلاقة من نوع فريد ستفرض نفسها علينا وعلى مصر».
ويضيف أنه لم تجر العادة فى علاقات دولنا بالخارج أن تطالبنا دولة أجنبية بالتمييز بين مواطنيها فنعامل المنتمين للحزب الحاكم أو لجماعة بعينها معاملة تفضيلية عن المنتمين لأحزاب أو جماعات أخرى أو للرعايا العاديين.
المجموعة الثالثة من الأسئلة تتعلق بموضوع شديد الحساسية. لقد دأبت الدول العربية على التدخل فى شئون بعضها البعض، بل لعلها سمة أصيلة فى النظام الإقليمى العربى مارستها الدول العربية الأكبر والأصغر على حد سواء فى مرحلة أو أخرى من مراحل تطور النظام. إلا أنه فى كل المراحل وكل الأحوال لم يكن مسموحا أو مستساغا حتى فى حالات الصداقة أو التحالف، أن تطلب سوريا أو العراق مثلا تخصيص علاقة متميزة لخلايا حزب البعث الناشطة فى دولة عربية أخرى. الشىء نفسه كان محل مراعاة عندما بدأت جماعات دعوية معينة تنشط سياسيا فى مصر وبعضها ارتكب أخطاء يعاقب عليها القانون، فلم تتدخل الدولة العربية الداعمة معنويا أو ماديا، ليحصل أفراد هذه الجماعات على معاملة متميزة، أو لعلها تدخلت سرا ولم نعلم.
الجديد فى هذا النوع من التدخل فى شئون الدول الأخرى هو أن تقوم دولة تدعم جماعة دينية تعمل فى دولة ثانية بالطلب إليها أن تكلف أنصارها أو فرعها فى دولة ثالثة بأداء المهام نفسها وقد يكون من بينها تنظيم خلايا سرية أو تهديد الاستقرار. هكذا لا تظهر الدولة المتدخلة فى الصورة ويحل محلها وكيل من دولة أخرى. أعرف أن هذا النوع من التدخل غير المباشر هو الآن محل بحث فى دول عربية بعينها، وأتوقع أن يتسع البحث والكشف فيؤديان إلى سلسلة من الأزمات فى منظومة العلاقات العربية - العربية.
•••
يتعلق أغلب ما جاء فى السطور أعلاه بالتوتر المتوقع أن يتفاقم فى العلاقات بين الدول العربية إن استمرت جماعة الإخوان المسلمين فى تصعيد جهودها لتحقيق أهدافها الخاصة على حساب أولويات الدولة المصرية ومصالحها الحيوية العاجلة، وعلى حساب التوازن القائم حاليا فى النظام الإقليمى العربى. إذا شاءت الجماعة وغيرها من أفرع التيار الدينى الاستمرار فى العمل السياسى فعليها أن تطلب من جماهيرها فترة سماح تتدرب خلالها على «عمل الدولة» من مواقع بعيدة بعض الشئ عن بؤر صنع القرارات الحيوية والمصيرية كالدفاع والسياسة الخارجية والاقتصاد. عندئذ ستكتشف بنفسها أن البيت الأبيض مثلا لا يمالىء الحزب الديمقراطى على حساب التزامات أمريكا الخارجية، وستكتشف أن 10 داوننج ستريت لا يعطى أولوية لحزب المحافظين على المملكة المتحدة.
الفصل ضرورى بين التزامات الحكم للجماعة والتزامه خدمة الدولة وبقائها.