جان دارك.. قديسة التحرير - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 3 أكتوبر 2024 2:14 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جان دارك.. قديسة التحرير

نشر فى : الأربعاء 11 يناير 2012 - 9:05 ص | آخر تحديث : الأربعاء 11 يناير 2012 - 9:05 ص

أعتقد أننى وقعت فى حبها.. وأنا شاب صغير فى المدرسة الثانوية. اسمها انجريد برجمان، تعرفت عليها لأول مرة وهى تلعب دور جان دارك فى فيلم سينمائى حمل نفس الاسم. عشت سنوات طويلة أحاول الاستدلال على ما جذبنى إليها وأوقعنى فى حبها، وأحاول فى الوقت نفسه الإجابة عن السؤال الذى لم يجد إجابة حتى الآن وهو: هل أحببت انجريد الممثلة أم جان دارك الدور؟. كل ما أعرفه هو أنه بعد مشاهدتى الفيلم، وأظن أننى شاهدته ما لا يقل عن عشرين مرة، لم أدع فيلما تمثل فيه انجريد برجمان يفوتنى، ولم أدع جان دارك الأسطورة والحقيقة تفلت من ذاكرتى.

 

●●●

 

تقول تفاصيل القصة، بعضها حقيقى وأكثرها من توابع الأسطورة، إن فتاة فى السادسة عشرة من عمرها خرجت إلى أهل قريتها لتعلن أنها مبعوثة العناية الإلهية لتخليص فرنسا من احتلال أعدائها البريطانيين، وأن ملائكة من السماء تولوا تدريبها لمدة ثلاث سنوات، دربوها على الحديث، وهى أمية لا تقرأ ولا تكتب، لقنوها فنون الحرب وهى صغيرة القوام ضعيفة البنية، علموها ركوب الخيل وهى التى لم تمتط حصانا فى حياتها. كانت تسمع أصواتا منذ كانت فى الثالثة عشرة من عمرها، تأتيها من فوق كتفها اليمنى، وسرت بين أهلها وبين الفلاحين سكان قريتها والقرى المجاورة روايات عن ضوء براق يظهر من خلفها فى كل مرة بدت للآخرين أنها تستمع إلى أصوات تأتى من فوق كتفها اليمنى.

 

●●●

 

لم يعرف الناس عن نوايا جان دارك النضالية إلا عندما خرجت إليهم وقد قصت شعرها الطويل ليصبح كشعر طفل يكاد يغطى الأذنين ولا يصل إلى الكتفين ولبست ملابس الرجال ووضعت الدروع وحملت السيف وامتطت حصانا، وأقسمت أن تنفذ المهمة التى كلفتها بها الملائكة..كانت تعرف أنها مستحيلة بل تشجعت ذات يوم وصرحت للملائكة بأنها تعتبر المهمة مستحيلة التنفيذ، فهى لم تركب خيلا من قبل، ولم تقد جيشا. ومع ذلك ما إن بعثت بالإنذار إلى ملك إنجلترا الذى أخضع فرنسا لذل الاحتلال حتى خرج الآلاف ليسيروا تحت قيادتها يحملون فئوسا وعصيا وأدوات الحقل. ألهبت حماستهم فحملوها من نصر إلى نصر حتى رفعوا الحصار البريطانى المفروض على أورليانز أكبر مدن الإقليم. قادت الجيوش وفرضت النظام والطاعة على ضباطها وأدارت المفاوضات مع أعدائها. يحكى أن جنود الأعداء ذكروا أنهم شاهدوا فى ساحات القتال سحبا من الفراشات تطير خلفها وتحيط بها وبحصانها، ومع ذلك، رفضوا أن يعترفوا بها كمبعوثة للعناية الإلهية وأصروا على روايتهم بأنها مبعوثة الشيطان. أصروا على موقفهم منها رغم مشاهدتهم لها وهى تمتنع عن مشاركة جنودها الاحتفال بالنصر وحرصها على أن تواسى جنود العدو وتنعى قتلاهم وتصلى من أجلهم.

 

●●●

 

خسرت آخر معاركها وحوكمت حين رفضت تغيير أقوالها والاعتراف بأنها لم تكن تسمع أصواتا تدعوها للثورة على الحكم البريطانى وشن حرب ضد الإنجليز وعملائهم لتحرير فرنسا. وصدر الحكم بموتها حرقا وجرى حرقها أمام شعبها الذى اشترك فى صب اللعنات عليها وألقى رمادها فى نهر السين. ماتت ولم تتجاوز التاسعة عشرة.

 

●●●

 

كان قد مر على المحاكمة التى أدينت فيها ثلاثون عاما حين انعقدت محكمة أخرى برأت ساحتها. وكان قد مر ما يزيد على خمسمائة عام عندما أفرج فى مطلع القرن العشرين عن مجموعة وثائق تسجل تفاصيل ما دار فى المحكمتين، وبعد دراستها قررت الكنيسة الكاثوليكية فى روما تطويب جان دارك قديسة بين القديسين والقديسات. ومن الأسطورة تحولت جان دارك فى السنوات الأخيرة إلى نموذج فى حركة تحرير المرأة ومثالا يحتذى بين الماركسيين الجدد والتيارات القومية فى فرنسا وبين نشطاء حركات الاحتجاج فى المكسيك، حتى الحلاقون علقوا صورتها لتشجيع الفتيات على تقليد قصة شعرها، باعتبار أن هذه القصة دليل على أن صاحبتها فتاة أو امرأة حرة فى مواجهة تعسف أهلها وتطرف المفسرين لدينها وقسوة وأنانية ونفاق بعض حراس التقاليد فى مجتمعها.

 

●●●

 

الفتاة الريفية صاحبة الوجه البسيط، التى كانت تقضى يومها تغزل الصوف وترعى الغنم صارت موضوع قصة ترويها بأشكال مختلفة عشرات الألوف من المجلدات المحفوظة فى الأرشيف الفرنسى، وشخصية تناولها بالإطراء والسخرية مشاهير الأدب والثقافة والفن مثل شكسبير وفولتير ومارك توين وبرنارد شو وبريخت وفردى وتشايكوفسكى، وصورة تزين غرف نوم طالبات وطلاب فى العديد من معاهد الغرب، مثلها مثل صورة أرنستو (تشى) جيفارا وأحيانا إلى جانبها. مات كلاهما صغيرا على أيدى معذبيه من الأعداء، ولم يعش كلاهما ليشهد ثمار نضاله من أجل التحرير والعدالة، ولكن بقيت سيرة كل منهما تضىء الطريق لكثيرات وكثيرين من الشبان الذين أقسموا أن ينفذوا المهمة المستحيلة التى كلفتهم بها شعوبهم.. أو العناية الإلهية.

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي