خطوة خطيرة على طريق التطبيع - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 3 فبراير 2025 8:18 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

خطوة خطيرة على طريق التطبيع

نشر فى : الخميس 12 أبريل 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 12 أبريل 2012 - 8:00 ص

أثار النبأ الذى نشر فى وسائل إعلام مصرية وعربية يوم السبت الماضى جدلا واسعا حول قضية قديمة جديدة هى مقاومة التطبيع مع إسرائيل. يقول النبأ إن مئات من الأقباط المصريين قد سافروا يوم الجمعة السابق على نشر الخبر إلى القدس المحتلة، فى تحدٍ لقرار البابا شنودة بطريرك الأقباط الأرثوذكس الذى رحل منذ أسابيع قليلة بحظر سفرهم إلى القدس قبل تحريرها من الاحتلال الإسرائيلى، وكان يؤكد بموقفه هذا قمة الوحدة الوطنية والفهم السليم لصراع العرب مع إسرائيل.

 

●●●

 

بدأت قضية مقاومة التطبيع فى مصر عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل فى 1979، وكانت هذه المقاومة هى السلاح الوحيد بيد الشعب آنذاك لإعلان رفضه المعاهدة التى فُرضت عليه فرضا رغم إحاطتها بسياج من الشرعية الزائفة بعد استفتاء شعبى شكلى، وكانت المعاهدة تتضمن أحكاما عديدة معظمها جائر فى الميدان العسكرى ـ الأمنى، لكنها امتدت أيضا إلى أحكام لتطبيع العلاقات مع إسرائيل كانت هى الثغرة التى نفذ الشعب منها إلى مقاومة المعاهدة التى جعل منها السادات شيئا أقرب إلى قدس الأقداس لدرجة أن قانون الأحزاب الذى صدر لاحقا قد اشترط لقيام أى حزب سياسى أن يكون موافقا على المعاهدة، غير أن الشعب المصرى الذى أُجبِرَ على السلام مع إسرائيل لم يكن مستعدا بأى حال للصداقة مع شعبها، وهو سلوك طبيعى فى ضوء الحروب المتكررة بين مصر وإسرائيل، وعشرات الألوف من الشهداء والمنازل المهدمة، والمنشآت الحيوية التى هاجمتها إسرائيل إبان حرب الاستنزاف، ولم يكن هذا كله بعيدا عن ذاكرته التاريخية، فقد جاءت تطورات السلام مع إسرائيل بعد سنوات قليلة من حرب أكتوبر 1973، أى أن دماء الشهداء لم تكن قد جفت بعد، ولا تمت إزالة آثار الهمجية الإسرائيلية بالكامل. وفى هذه الظروف وجد الشعب المصرى من يطالبه رغم هذا كله بالتطبيع مع الكيان الصهيونى، والتخلص من ذاكرته التاريخية، وفتح صفحة جديدة مع الإسرائيليين الذين لا يفتأون يذكروننا حتى الآن بمذابح النازى التى كان اليهود ضحية لها فى الحرب العالمية الثانية بعد قرابة سبعين عاما من انتهائها.

 

هكذا مارس الشعب المصرى بامتياز مقاومته التطبيع دون ترتيب مسبق أو توجيه من أحد. صحيح أنه كانت هناك خروقات لهذه المقاومة إلا أنها كانت محدودة للغاية من بعض الذين كانوا يعانون من البطالة ويتصورون إسرائيل جنة الله فى أرضه، أو من بعض رجال الأعمال الذين غلَّبوا مصالحهم على مصلحة الوطن، أو بإغراءات أمريكية كما فى اتفاقية الكويز التى أعفت الصادرات المصرية التى تدخل فى إنتاجها نسبة معينة من المكونات الإسرائيلية من التعريفة الجمركية فى السوق الأمريكية، أو من نفر من الأدباء والفنانين من طالبى الشهرة الذين تنكروا لمصالح وطنهم ودماء شهدائه، لكن الموقف الشعبى المضاد للتطبيع بقى فى مجمله صامدا.

 

●●●

 

 فى هذا النضال السياسى الصعب اتخذت الكنيسة الأرثوذكسية وعلى رأسها البابا الراحل الموقف الذى يؤكد انتماءها إلى نسيج الوطنية المصرية، فرفض البابا أى حديث عن التطبيع من قبل أقباط مصر، مع أنه كان مطروحا فى مسألة دينية وليس فى سياق سياسى، وهى رغبة الأقباط فى الحج إلى القدس، ومع ذلك كان البابا شنودة حريصا على ألا تثور أية شبهة تطبيع بسبب هذه الزيارات الدينية، فمنعها، وأعلن صراحة أن أقباط مصر لن يدخلوا القدس إلا بعد تحريرها من الاحتلال الإسرائيلى، وأيديهم فى أيدى إخوتهم المسلمين. كان البابا شنودة مؤمنا بمسئولية إسرائيل عن الأهوال التى لحقت بالعرب والفلسطينيين منذ نشأت الحركة الصهيونية فى أواخر القرن قبل الماضى، وبصفة خاصة بعد إعلان دولة إسرائيل على الجزء الأكبر من أرض فلسطين فى 1948، تماما كإيمانه بمسئولية اليهود عن دم المسيح عليه السلام. غير أننى أعتقد من ناحية أخرى أنه كان حريصا على تأكيد حقيقة أن أقباط مصر جزء من نسيجها الوطنى ولا يمكن لهم أن يخرجوا عن الإجماع الشعبى، وقد لقى هذا الموقف الصلب تقديرا عاليا من جميع أطياف الشعب المصرى، كما أن صيته قد ذاع عربيا وإسلاميا بسبب هذا الموقف، خاصة أنه تفوق بهذا حينذاك على أقرانه من رجال الدين المسلمين ذوى الأدوار «الرسمية» فى مصر، ولم يُعقد فى حينه أى مؤتمر عربى أو إسلامى إلا وأشاد بموقف البابا شنودة، واعتبر هذا الموقف أساسا لما يجب أن يتبع من سياسات فى مواجهة إسرائيل والتطبيع معها. وقد دفع البابا شنودة ثمن هذا الموقف غاليا خاصة وقد راجت تقارير عن رفضه مصاحبة السادات فى زيارته إسرائيل عام1977، وعن رفض إرسال وفود من أقباط مصر بناء على طلب السادات لزيارة القدس على أساس أن الوقت غير ملائم، وقد أفضى هذا كله فى النهاية إلى أن بلغ غضب السادات منه مبلغه، فألغى القرار الجمهورى الذى صدَّق على اختيار البابا شنودة على رأس الكنيسة الأرثوذكسية، واختار لجنة لإدارة شئون الكنيسة.

 

ومن الحقيقى أنه كانت هناك خروقات لقرار البابا بمنع سفر الأقباط إلى القدس إلا بعد تحريرها من الاحتلال الصهيونى، إلا أن هذه الخروقات كانت محدودة وانحصرت فى أولئك الأقباط المتدينين الذين تهفو نفوسهم لزيارة القدس، أو بسبب بعض رجال الأعمال فى مجال السياحة الذين كانت نفوسهم «تهفو» أيضا لجنى الأرباح الطائلة استغلالا للرغبة الجامحة والمشروعة لدى الأقباط المتعطشين لزيارة القدس.

 

فى ذلك الوقت كان الجدل بخصوص التطبيع ولا يزال يدور فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وقد تبلور تيار قوى تزعمته السلطة الفلسطينية لاحقا يرى أن التطبيع على هذا النحو يكاد يكون فرضا لدعم الفلسطينيين ماديا ومعنويا، وأنه لايضر بالقضية الفلسطينية من قريب أو بعيد، بل إن الامتناع عن زيارة الضفة الغربية وغزة بحجة خضوعهما للاحتلال الإسرائيلى يدخل الفلسطينيين فى إسار عزلة تؤثر بالسلب على إرادة الصمود لديهم، كذلك كان هناك عدد من أفراد النخبة المصرية الحاكمة فى ظل النظام السابق يرون هذا الرأى نفسه، وكان هؤلاء يدلون بتصريحاتهم فى هذا الخصوص ويدافعون فيها عن التطبيع، ولكن دون جدوى، بل إن هذه المواقف «الرسمية» قد حظيت بردود فعل شديدة القسوة فى الساحتين السياسية والفكرية فى مصر.

 

●●●

 

فى هذه الظروف تأتى أنباء زيارة المئات من أقباط مصر إسرائيل يوم السبت الماضى كثقب فى جدار مقاومة التطبيع، ومن المفترض أن تستمر هذه الرحلات بانتظام فتصل الأعداد إلى الآلاف كما ذكرت التقارير التى رصدت هذا الموضوع، وقد أكدت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية فى هذه المرحلة الانتقالية التى تمر بها أن الموقف الرافض للتطبيع الذى يمنع أقباط مصر من زيارة القدس هو موقف الكنيسة، ولم يكن مرتبطا بشخص البابا شنودة حتى ينتهى بوفاته، ولكن الخوف من أن «كاريزما» البابا شنودة لا شك قد ساعدت على الالتزام بالقرار، أما بعد غيابه فقد يأتى على رأس الكنيسة من لا يتمتع بهذه «الكاريزما» نفسها، وبالتالى فإن ثمة مخاوف من أن يفلت زمام الأمر من بين يدى الكنيسة. من ناحية أخرى صرح المستشار القانونى للكنيسة بأنها «لا تملك الموافقة أو الرفض»، وأن الذين أقدموا على زيارة القدس لم يطلبوا من الكنيسة تصريحا بالسفر، كما أقر بأن تحدى مئات الأقباط قرار الكنيسة مؤشر إلى أن «فصيلا من الأقباط يتجه إلى أخذ قراره بنفسه من دون الرجوع إلى الكنيسة»، وأنه ـ أى هذا الفصيل ـ «لن ينصاع للكنيسة فى قراراتها لاسيما السياسية خلال المستقبل».

 

وفى النهاية فإن من المهم أن هذا الحدث يعيد إلى دائرة الضوء ذلك الجدل الحاد حول حدود التطبيع مع إسرائيل وآفاقه، وهى مسألة تتصل بوضوح بمستقبل الصراع العربى ـ الإسرائيلى، ولا يقل عن ذلك أهمية أن هذه التطورات تأتى فى ظل «ثورة يناير» التى توحد فيها أقباط مصر ومسلموها فى لحظة تاريخية مجيدة أعادت إلى الأذهان مناخ ثورة 1919، ومن المعروف أن «ثورة يناير» قد ركزت فى شعاراتها وأفعالها على ضرورة تبنى سياسة أكثر صرامة وفاعلية تجاه إسرائيل وجرائمها بحق العرب والفلسطينيين، ومن ثم فإن أحد الأبعاد المقلقة لما حدث ـ خاصة وأنه مرشح للاستمرار ـ هو احتمال حدوث شرخ ــ لا قدر الله ــ فى العلاقة بين مسلمى مصر وأقباطها من هذا المنظور تحديدا. وما أغنانا جميعا فى هذه الظروف الراهنة عن مثل هذه التطورات.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية