فى إندونيسيا مرة أخرى أقف مذهولا أمام هذه الوحدة وسط محيط هادر من التعدد والتنوع الدينى والعرقى والطائفة، ست ديانات رسمية و٣٥٠ عرقا ومئات اللغات، ورغم ذلك لم يتصارعوا حول الدستور أو هوية دولة يمثل المسلمون فيها تسعين فى المائة من عدد السكان، ولن نسمع أن أحدا طالب بتطبيق الشريعة الإسلامية ولو على الكتلة المسلمة فى البلاد.
إنهم قرروا واختاروا أن يكونوا مواطنين إندونيسيين، الجميع متساوون فى الحقوق متعادلون فى الواجبات، متوافقون وراضون وقانعون بأن على أرضهم ما يستحق الحياة، وأن فى الحياة ما يستلزم الاتحاد والمساواة والعدل، ولذا تجد تعاليم ومبادئ وقيم الإسلام تسرى كالروح فى جسد الدستور، دون جبر أو إكراه، ودون مناوأة من الأقليات أو شعور بالدونية.
هم باختصار تعاملوا مع روح الإسلام وقيمه ولم يتوقفوا عند التطبيق الحرفى للنصوص، أو بعبارة أكثر دقة اهتموا بمقاصد الشريعة واحترموها واستفادوا منها فى إيجاد حالة من التوافق المدهش، على أساس من الأخوة الإنسانية بالمعنى الكامل للكلمة كما تجلى فى تعاليم الدين الإسلامى وغيره من الأديان.
وبدلا من الجدل حول علاقة الدولة بالدين انشغل الإندونيسيون بعد ١٣ عاما من ثورتهم بإصلاح علاقة الدولة بالسياسة، من خلال تطوير وتحسين النظام السياسى بما يسمح بتعميق قيمة المواطنة العادلة والمتساوية لدى الجميع.
لقد كنا مجموعة من السياسيين والبرلمانيين والمثقفين المصريين والتونسيين نتحلق فى نقاش مع نظرائنا الإندونيسيين حول الدستور والتطور الديمقراطى، فى اللحظة التى ضرب فيها زلزال كبير سواحل إندونيسيا منذرا بهجوم تسونامى عنيف، فأدركنا لماذا اعتصم هؤلاء بوحدتهم وتوافقهم على قيم وطنية عليا، حيث لا منجاة لشعب يواجه خطر الكوارث الطبيعية كل يوم إلا بالوحدة والأخوة فى الوطن وفى الإنسانية بمفهومها الساطع.
لقد أحب الإندونيسيون بعضهم البعض تحت التسونامى والكوارث الطبيعية، وقد فعلها المصريون أيضا خلال ١٨ يوما من ثورة يناير فى مواجهة كارثة طبيعية اسمها نظام مبارك، غير أن المصريين تخلوا عن وحدتهم بعد انحسار المخلوع، فعادت موجات أخرى أعنف تهاجمهم، وأطل نائب مبارك ورئيس حكومته برأسيهما، بينما القوى السياسية التى قهرت تسونامى مبارك بالوحدة منقسمة ومفتتة ومأخوذة إلى معارك وصراعات حول قضايا من المفترض أنها محسومة وراسخة.
والحاصل أننا لم نخترع دولة اسمها مصر بعد الثورة حتى يقول لنا أحد إنه يبنى لنا دولة، كما أننا لم نكتشف دينا عظيما اسمه الإسلام بعد ٢٥ يناير حتى يبتزنا أحد بأنه يريد تمكين دين الله فى أرضه مبررا انفراده بوضع الدستور.
إن المطلوب من الجميع ــ بعيدا عن ذيول النظام الساقط ورموزه ــ ألا يهدروا طاقتهم فى صراع حول هوية الدولة وعلاقتها بالدين.. فالمطلب الملح والعاجل أن يكون لدينا نظام سياسى كفء ومحترم قادر على إدارة مصر والنهوض بها، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون.