البيضوحباطيون» يغزون المدينة! - بلال فضل - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 5:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البيضوحباطيون» يغزون المدينة!

نشر فى : السبت 12 يناير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 12 يناير 2013 - 8:00 ص

للأسف، البعض يفكرون هكذا: إذا كنت قد فشلت في تغيير الواقع لأنك لم تصل إلى الحكم، وإذا كان فشلك في تطوير خطابك السياسي جعل الناس تنفض من حولك لتنشغل بمعاركها اليومية وأكل عيشها الذي شاركت في الثورة أو حتى تعاطفت معها من أجله، وإذا كان الناس مقتنعين مثلك بأن تيارات الشعارات الإسلامية لا تحمل لهم سوى الأوهام لكنهم أيضا يريدون بديلا معقولا ومقبولا وعملا جادا وسطهم ومعهم، وأنت تعبت وزهقت ولم تعد حمل ذلك، فماذا تفعل إذن؟، بسيطة جدا: إرمي بلاك على الثورة، وانتع تصريحات تقول فيها أن الثورة فشلت، وأنك في إنتظار ثورة جديدة، حتى لو كان معنى كلامك أن الثورة الناجحة هي التي تصل بنا إلى الحكم، أما التي توصل خصومنا السياسيين إليه فهي ثورة فاشلة بالثلث. لست أصادر حق أحد في السخط، لكنني أفهم أن يسخط على الثورة الذين تسببت الإضطرابات الإقتصادية في قطع لقمة عيشهم، أو الذين حلموا بأن تحدث تغييرا في ظروفهم فيختفي فورا ما يشعرون به من فساد وقهر وظلم، أما أن يكتب في هجائها وإنتقاصها بعض من تربحوا منها وأعادتهم ثانية إلى مسرح الأحداث ليهبروا مبالغ فلكية بفضل الثورة التي كان أولى بهم لو لم يشكروها، أن يكفوها شر ألسنتهم التي تبخ الطاقة السلبية في كل إتجاه، على الأقل إمتنانا لقيامها بتأمين مستقبل أولادهم وأحفادهم.

 

 لكي يبدو كلامها منطقيا، تستخدم هذه الكائنات «البيضوإحباطية» كلاما من نوعية «طبعا الثورة فشلت لأن الثورة في كتب العلوم السياسية تعني التغيير الجذري وإلى الآن لم يحدث تغيير جذري»، لو كان هؤلاء قد حكموا لسمعت منهم أن الكتب تقول أن التغيير الجذري لايمكن أن يحدث علميا في أقل من ربع قرن كما يقول مثلا المفكر الأمريكي جين شارب الذي ألهمت أفكاره ملايين الحالمين بالتغيير حول العالم. كنت أتمنى أن يقول هؤلاء للناس أن المشكلة الحقيقية مع الإخوان ورئيسها  ليست أنهم لم يحققوا تغييرجذريا لأن ذلك يستحيل في ستة اشهر، بل المشكلة أنهم يعملون على هدم كل الطرق التي يمكن أن نسلكها لتحقيق التغيير الجذري، والذي لا يمكن أن يحدث أبدا من خلال قرارات فوقية تُلقى من على ظهر دبابة أو بالإستناد إليها وتُفرض بالقوة الجبرية فيزيط الناس فرحا بها ثم يصحون منها على نكسة مؤلمة تثبت لهم أنهم إستبدلوا ملكا بعشرات الملوك، وأنهم انتقلوا من حكم الأسرة المالكة إلى حكم أسر المماليك الذي بدأنا منذ سنتين في الثورة عليه، ولازال أمامنا الكثير حتى ننجح في الخلاص منه إلى الأبد. 

 

في العادة يستخدم ناشرو الإحباط نموذج الثورة الامريكية للإشارة إلى الثورة الناجحة التي تستطيع خلق تغيير جذري في المجتمع لأنها تمكنت من كتابة دستور يجمع الأمريكيين عليه وحوله، وبالتالي تكون ثورتنا قد فشلت بالثلث لأننا لم نستطع تحقيق ذلك في بلادنا المنكوبة بحاكمها الذي كذب على الشعب الذي وعده بإتخاذ كل السبل الممكنة للحصول على توافق وطني حول دستور البلاد. لن أرد على هذا الكلام فقط بما سبق أن قلته «من العبث أن تفرض على أي شعب إلى الأبد دستورا تم تمريره من خلال مناخ التخويف والتخوين والتكفير فضلا عن التزوير»، بل سأستشهد بالثورة الأمريكية نفسها التي لم تصل إلى دستورها المنشود فور وقوعها كما يظن البعض، ولا يمكن أن ينبئك عن هذا من هو أفضل من المؤرخ الأمريكي العظيم هوارد زن الذي لا أكف عن نصح كل الباحثين عن الأمل أو المقتنعين بوهم النصر السريع بقراءة كتابه الرائع (التاريخ الشعبي للولايات المتحدة) والذي صدر في جزئين عن المجلس الأعلى للثقافة بترجمة رائعة للأستاذ شعبان مكاوي.

 

يروي زن في كتابه كيف سادت الحيرة والمرارة نفوس الذين حلموا بتغيير جذري تحدثه الثورة الأمريكية في بنية المجتمع الطبقية، لكنهم رأوا أن ذلك لم يحدث، وأن كل ماجرى هو تغييرات على المجموعة الحاكمة، بعد أن تدهورت المكانة الإجتماعية للذين دفعوا ثمن ولائهم السابق للتاج البريطاني الذي إنتصرت عليه الثورة، يرى ادموند مورجان أن «الطبقات الدنيا تم إستغلالها في  صراع بين أفراد الطبقة العليا من أجل السلطة وحيازة المناصب»، ويعلق ريتشارد موريس على أمريكا التي يعيشها بعد الثورة قائلا  «لا يرى المرء سوى الظلم والتفاوت أينما ولى وجهه»، معتبرا أن كلمة «شعب الولايات المتحدة» التي جاءت في إعلان الإستقلال كانت أصلا من إبتكار جوفيرنر موريس فاحش الثراء، وأنها لم تكن تعني الهنود الحمر أو السود أو فقراء البيض أو النساء، فعدد الخدم بعد الثورة قد بلغ أعلى معدل له لأن الثورة لم تفعل شيئا يخفف من حدة الإستعباد الأبيض.

 

إذن، حتى الثورة الأمريكية لم تحقق لمن شاركوا فيها تغييرا جذريا فوريا، لكن الأحرار منهم لم يستسلموا لهذا الواقع المرير، ستشعر بالإعجاب وأنت تقرأ وقائع إستمرارهم في التمرد والإنتفاض حتى يجني جميع الأمريكيين ثمار ثورتهم، وهو تمرد لم تتعامل الطبقات المسيطرة معه بتسامح، بل حاربته بكل ما أوتيت من قوة، وحده توماس جيفرسون الذي كان المؤلف الرئيسي فيما بعد لإعلان الإستقلال الأمريكي الذي يفخر به الأمريكيون حتى الآن، هو الذي قرأ الواقع جيدا حين كتب مقولته الشهيرة «إنني أؤمن إنه لشيئ طيب أن يحدث تمرد صغير من وقت لآخر، إنه علاج ضروري لصحة الحكومة، وإني لأعوذ بالله من أن تمر علينا عشرون سنة دون وقوع تمرد، لابد أن تروي شجرة الحرية من وقت لآخر بدماء الوطنيين والطغاة، فتلك الدماء هي سمادها الطبيعي»، وهي مقولة يمكن أن تستبدلها ببساطة بجملة من كلمتين (الثورة مستمرة)، وهي الجملة التي أوصلت الأمريكيين إلى أن يكون لهم دستور يفتخرون به جميعا، وحتى عندما حدث ذلك لم يكن ذلك نهاية المطاف، كما سنرى غدا بإذن الله.