فى اعتقاده أن إسبانيا هى البوتقة التى تصارعت فيها كل الأيديولوجيات والمعمل الذى تفاعلت داخله جميع الأفكار وأن ما يحدث فيها من تفاعلات أو يتبدى من ظواهر يؤثر فى عالمها بأكثر مما هو متوقع.
العالم كله تصادم على مسارحها بالأفكار والعقائد والسلاح على مدى ثلاث سنوات استبقت الحرب العالمية الثانية.
بتعبير الشاعر الإنجليزى الكبير «ستيفن سبندر»: «أحسست أثناء الحرب الأهلية فى إسبانيا أن صراعنا اختلاف كتب».
كانت تجربة الحرب الأهلية ملهمة بقدر ما هى مزعجة والأخطر أن جراحها مازالت ماثلة حتى الآن رغم أنها حسمت فى العام الأخير من ثلاثينيات القرن الماضى.
مصدر الإلهام يعود إلى تصور أن هناك ما يستحق الموت من أجله وأن عالما جديدا أكثر عدالة يمكن أن يولد من تحت النيران.
بهذا المعنى أنشد الشاعر الإسبانى الأكبر «لوركا» للمستقبل وكتب الأديب الفرنسى «أندريه مالرو» روايته ذائعة الصيت «الأمل» وتملك المعنى نفسه الروائى الأمريكى «أرنست همنجواى» وقامات أدبية أخرى من ذات المستوى الرفيع.
ومصدر الإزعاج أن كل شىء قد تحطم تحت الأقدام الغليظة لحكم الجنرال «فرانشسكو فرانكو»، تبددت الأحلام الكبرى وقبعت الكوابيس فى المخيلة العامة دون أن تغادرها.
بصورة أو أخرى على ما يقول ويؤكد فإن إسبانيا لم تتعاف تماما من حربها الأهلية وأن ظواهرها السياسية الجديدة لا يمكن قراءتها على نحو صحيح دون إطلال على مكامن الألم القديم.
هذا يصح فى الحالة الإسبانية كما يصح هنا رغم اختلاف الظروف والأحوال، فالتاريخ فى مصر ماثل تحت الجلد السياسى وحاضر فى كل سجال.
لم تكن تجربة الانتقال إلى الديمقراطية بعد رحيل «فرانكو« منتصف السبعينيات من القرن الماضى «كأنه سفر من بلد إلى آخر أو من قارة إلى أخرى ليس فيه غير مخاطر الطيران» على ما سجل فى أوراقه، ولا أية تجربة انتقال أخرى تجرى بلا ثمن أو بغير معاناة، فلا يوجد شىء مجانى فى التاريخ كأنه رحلة خلوية ذات يوم مشمس.
نجحت إسبانيا بدرجة مقنعة فى إجراء أوسع مصالحات ممكنة طبق قواعد العدالة الانتقالية وصاغت قواعد دستورية ملزمة غير أن التجربة لم تكن سهلة على أى نحو ولا فى أى وقت.
فى حوار جمعه إلى الملك الإسبانى السابق «خوان كارلوس» قبل ثلاثين سنة ضمنه كتابه «زيارة جديدة للتاريخ» روى الرجل الذى أشرف على التحول الديمقراطى قصة تلخص الموقف الصعب الذى وجد نفسه فيه وكان عليه الاختيار ولكل اختيار عواقبه.
عندما حصد الحزب الاشتراكى، الطرف الخاسر فى الحرب الأهلية، أغلبية أول انتخابات نيابية سأله أحد الأصدقاء المقربين أن يلغى النتائج فـ«لا يمكن أن تكون قد جننت حتى تسلم السلطة للاشتراكيين».. وكان رده: «إننى لم أفعل ما فعلته عن خوف وإنما عن اعتقاد بأنه لا يحق للملك أن يريد غير ما يريده شعبه».
شىء من هذا حدث فى مصر غير أن التجربة كانت مدمرة ومريرة، فالذين صعدوا بالوسائل الديمقراطية تنكروا لها وألغوا فى الوقت نفسه أى معنى لأى حديث عن تداول السلطة وأمعنوا فى العنف والخلط بين ما هو دينى مقدس وما هو سياسى متغير، ولم يكن الأمر على هذا النحو فى التجربة الإسبانية.
ما لم تستوعبه جماعة الإخوان المسلمين أو غيرها قاله «خوان كارلوس» واضحا وصريحا لصديقه المقرب: «هل فهمت.. هل فهمت التاريخ.. وهل فهمت العصر الذى نعيش فيه؟».
مع ذلك فإن الذين لا يفهمون التاريخ فى إسبانيا حاولوا قطع الطريق على الديمقراطية وإعادة حكم «فرانكو« بقواعده وأساليبه لا بشخصه وسمته رغم أن العودة إلى الماضى مسألة شبه مستحيلة وأثمانها باهظة.
بعض ما كتبه فى «زياره إلى التاريخ» كأنه كتب اليوم لكى يطالع المصريون وجوههم فى المرآة الإسبانية.
فى حواره مع الملك «خوان كارلوس» قال نصا: «لكل بلد ظروفه وتجارب الشعوب غير قابلة للنقل أو التقليد لكنها بالتأكيد قابلة للدرس والاستيعاب».. «هناك محاولة بحث عن الديمقراطية.. وهذه قضية القضايا فى العالم العربى. مجتمعاتنا نمت وتطورت وتغيرت كما حدث فى إسبانيا لكن السلطة وممارساتها لم تستطع أن تعكس ذلك كله حتى هذه اللحظة».
رغم تقادم السنين فإن الكلام بنصه له صدى ورنين بالنسبة لبلد قام بثورتين فى أقل من ثلاث سنوات من أجل التحول إلى مجتمع ديمقراطى حر.
كانت القضية الأهم فى التجربة الإسبانية مدى كفاءة إدارة التوازنات المعقدة بعد تحديد الأهداف ووضوح الرؤى.
فقد قمعت بقوة السلاح الديمقراطية ووسائلها وصودرت الاشتراكية وأهدافها وجمدت السياسة طوال أربعين سنة متصلة من حكم «فرانكو».
لم يكن الخروج من الجمود الطويل سهلا، ورغم فاشية «فرانكو» فإن سياساته وفرت خططا للتصنيع والخدمات غيرت من التركيب الطبقى لإسبانيا بما ساعد تاليا على توفير بنية اجتماعية قادرة على مسئولية التحول إلى الديمقراطية بينما أفضت هنا فى مصر سياسات «حسنى مبارك» إلى تجريف الاقتصاد ونهبه على أوسع نطاق وتقويض الطبقة الوسطى أو أى ظهير اجتماعى قادر على تحمل نفس المسئولية.
فى الحديث عن التجربة الإسبانية يتداخل الحاضر مع الماضى بصورة مثيرة وفى حيوية المجتمع تتجلى القدرة على بناء إطارات سياسية جديدة تخرج عن المألوف وتتحدى السياق.
هناك الآن مشروع انقلاب فى المعادلة السياسية التى حكمت إسبانيا بعد استعادة الديمقراطية عنوانها «بوديموس» التى تعنى بالإسبانية «نحن نستطيع»، وهو حزب جديد تأسس قبل عام بالضبط لكنه نجح فى هذا الوقت الوجيز من اختراق الحواجز التى استقرت وبدأ يزاحم بقوة وفق جميع استطلاعات الرأى العام الحزبيين التاريخيين «الاشتراكى» و«الشعبى المحافظ» اللذين يحتكران معادلة الحكم والمعارضة وكلاهما ينتمى إلى إرث الحرب الأهلية.
طبقا لبعض الاستطلاعات فإنه إذا أجريت الانتخابات النيابية اليوم فإن «بوديموس» قد يحصل على (٢١.٢٪) بالقرب من الحزب المحافظ الحاكم (٢٢.٣٪).
الصعود المفاجئ يهدد بقسوة مستقبل الحزب الاشتراكى، فهو ينتمى مثله إلى اليسار لكن بمفاهيم احتجاجية فأصوله ترجع إلى حركات فئوية وبيئية تعترض على غياب العدالة والمساواة والإجحاف فى عقود العمل المؤقتة.
بعبارة قد تكون جارحة فإن هذه الحركات الاحتجاجية نجحت فى بلورة نفوذها السياسى بينما مثيلاتها فى مصر تصارعت وتشققت وتفككت وفشلت فى أن تبلور قوتها فى حزب قادر على خوض الانتخابات النيابية ويحوز ثقة الرأى العام.
أمام الظاهرة الإسبانية الجديدة دعا إلى البحث فيما خلفها والتمهل قبل إصدار أية أحكام أخيرة بشأنها: «أنت ترى فيها مرآة لما قد يحدث فى مناطق أخرى، فإسبانيا مازالت تحتفظ بطبيعتها كبوتقة أيديولوجيات ومعمل أفكار، ومن حيث المبدأ العام فإنه إذا لم يحدث تغيير حقيقى فى الأوضاع الطبقية فإن الوضع السياسى يصعب أن يستقر، وهذا الكلام يصح فى إسبانيا كما يصح فى أى مكان آخر، ثم لا تنس أن فى إسبانيا أزمة هوية حقيقية وصراع ثقافات وصراع أقاليم وأزمات وصراعات أخرى يطول شرحها».
المشكلة الحقيقية فى مصر أن هناك من يتوهم إلغاء «العدالة الاجتماعية» دون التوقف عن الحديث عنها واستبعاد أية تغييرات جوهرية فى البنية الطبقية المختلة بفداحة والرهان فى الوقت نفسه على الاستقرار السياسى.
فى ملفات التحول الديمقراطى والعدالة الانتقالية والانتقال مما هو احتجاجى إلى ما هو حزبى فإن هناك ما يستحق النظر فى المرآة الإسبانية على ما يدعو الأستاذ «محمد حسنين هيكل».