بعد ما يقارب العام من تاريخ اندلاع الاحتجاجات الشعبية فى سوريا، ومع اشتداد العنف الدموى الذى تُجابه به المطالب الشعبية منذ اليوم الأول، يجرى الحديث عن الانتقال فى سوريا إلى مرحلة حرب أهلية يمكن أن تصيب نتائجها محيطها العربى والإقليمى. وتتردد هذه التحذيرات من قبل محللين سياسيين عرب وأجانب، وقد تبناها أيضا مسئولون دوليون وإقليميون، ليست أولهم وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون وليس آخرهم أمين عام الجامعة العربية نبيل العربى. سيناريو الحرب الأهلية يجرى العمل عليه بمجهود كبير من قبل أطراف فى السلطة الذين يهدفون من خلال التلويح به إلى أمرين أساسيين: أولهما يتمثل فى إرهاب المكونات السورية المنتمية إلى أقليات دينية وربط مصيرها بمصير استمرار الاستبداد والقمع، وتحفيز التوجس لدى فئة من المجتمع السورى التى تدفعها علمانيتها الحقيقية أو المصطنعة إلى الوقوع فى نفس الأزمة النفسية المتمثلة بالخوف من حراك ثورى مبهم المعالم، أو هكذا تخال، ويهدد، حسب زعمها أو ما تريد أن تصدقه، الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعى المتآلف. ومن جهة أخرى، التأثير على قرار إقليمى ودولى يحمل خوفا عصابيا من احتمال كهذا يصيب المنطقة بمجملها، خصوصا فى ظل فشل الدمقرطة من فوق التى مورست أمريكيا فى العراق وأدت إلى شبه حرب أهلية وإلى إعادة انتاج الاستبداد على أساس دينى ـ عصابى.
ولقد نجحت السلطة السورية نسبيا ووقتيا فى الأمرين. فمن جهة الداخل، وجد المنتمون إلى الأقليات الدينية، دون أن يكون لهم سابق تصريح بهويتهم الضيقة، وعلى الرغم من مشاركتهم الواسعة فى الحياة العامة بعيدا عن التقوقع والانغلاق، وعلى الرغم من عدم استفادتهم البتة من أى منفعة مهما صغرت من نظام عاملهم كما غيرهم من السوريين بناء على مبدأ الطاعة والولاء وليس على مبدأ المواطنة، وجدوا أنفسهم فى حالة من التردد والانكفاء، وأحيانا قليلة، قاموا بالانخراط فى عمل تعبوى مستند على أوهام وشائعات عززت شعور الخوف لدى أقرانهم ودفعتهم ليحتلوا كرسى الشريك فيما هم ليسوا به شركاء. وتعززت هذه الشراكة غير المباشرة مع الإعلام الرسمى وشبه الرسمى الذى يمارس التحريض فى أبشع أشكاله، وأدت إلى مواقف لبعض من النخب التى عبرت من خلالها عن الخوف والتشكيك فى «نظافة» مقاصد الثورة والحراك الشعبى الذى يسيرها.
ومن جهة الخارج، طرحت مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام العديد من التساؤلات حول طبيعة الحراك القائم وعن نوعية المشاركين فيه والأطر الناظمة أو المهيئة لنشاطاتهم وعن تطلعات هذه التحركات لمستقبل سورى وحيد الانتماء أو الذى من الممكن أن تطغى عليه عقلية الانتقام ممن مارسوا، أو تم الظن بهم أنهم قد مارسوا، جزءا من السلطة المنتهكة للحقوق وللحريات. وبالتالى، فالخوف محمود، والحذر واجب، والمطالبة المستمرة والمتكررة والتى أضحت كالجملة الموسيقية المكررة التى تطرح هى فى الحصول على تطمينات تذكر بلغة العهود التى كان أمراء العصور الوسطى يقطعونها على أنفسهم.
●●●
المعطيات الواضحة على أرض الواقع تُشير إلى أن مقاومة السوريين للاستبداد وللتسلط تتوازى مع مقاومتهم للوقوع فى فخ حرب أهلية. وإلى أنه، وعلى الرغم من تدمير مجتمعهم المدنى وتحويله بشكل منهجى إلى انتماءات عشائرية وطائفية ومذهبية، استطاعوا منذ بدء الاحتجاجات، وبوعى لافت، أن يتنبهوا عموما إلى المأزق المنشود الوقع فيه من قبل السلطة والذى تم جذبهم إليه بكل الحيل وهو الصدام القائم على الانتماء الإثنى أو الدينى. وليس من التكرار أن يتم التذكير بأن ثورة السوريين الأولى ضد الانتداب الفرنسى جمعت طوائف سوريا كلها فى عشرينيات القرن الماضى لمواجهة مخطط تقسيمى على أساس دينى ومذهبى سعت إليه السلطة الفرنسية المنتدبة حينها. فمن المنطقى إذن أن يعى السوريون، ولو أنه قد جرى العمل طوال عقود على إفقار مخزوناتهم العلمية والثقافية، خطر الوقوع فى نفس الفخ فى مطلع الألفية الثالثة.
لقد عمل السوريون طوال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على تعزيز مفهوم الدولة الوطن وليس الدولة العشيرة أو المذهب. وبمساع غير حميدة من أنظمة ادعت تبنى العلمانية وتلبست لبوس التقدمية، فإن المجتمع السورى تعرض إلى هزة عميقة فى موضوع الانتماء وأضحى الولاء للمؤسسة الحاكمة هو المعيار، مما عزز التكتلات الزبائنية، بعيدا عن المعايير الطائفية المباشرة، وارتهنت الأقليات لصالح حام لها قدير على تهديدها مباشرة أو عبر وسائل ملتوية أثبتت «جدارتها» بحق كل أفراد الشعب.
ولكن، هل يكفى التذكير بالماضى المجيد وبالوعى العميق وبالممارسات التى تنم عن التزام واضح بالانتماء إلى وطن للجميع بعيدا عن التحزبات الطائفية أو المذهبية لكى يمنح الطمأنينة إلى من لا يزال فى نفق الخوف والظن المشكك بمآلات التغيير وبالقادم المجهول؟ يبدو أن الجواب على هذا السؤال صعب وتتنازعه مدرستان، الأولى، تنادى بالتركيز على مفهوم المواطنة كمبدأ مقدس لا ضرورة من خلاله إلى تطوير خطاب فئوى محدد باتجاه طائفة ما أو إثنية ما. وهذا الخطاب يعتبر أن التركيز على المساواة فى الحقوق وفى الواجبات بين مواطنين وليسوا رعايا، هو الضامن الوحيد والأكيد لمستقبل مزدهر وديمقراطى. والمدرسة الأخرى، وهى أكثر واقعية وبعدا عن المشتهى والمرغوب، وأكثر وعيا لتعقيدات الصورة وصعوبة المرحلة، فهى تدعو إلى أن يتم انتاج خطاب يستند إلى المواطنة بالتأكيد، ولكنه يتوجه بشكل واضح وصريح نحو الطوائف مشتركة أو منفردة، ليعزز شعورها بالاطمئنان إلى انتماء مشترك وإلى مستقبل واحد.
●●●
ويجرى الاعتقاد بأن الانتقال من الاقتناع بأى من المدرستين هو مرتبط زمنيا بتطور الأحداث على أرض الواقع. ففى بدء الاحتجاجات السلمية التى جوبهت بقمع دموى، كان الإصرار على تعاليم المدرسة الأولى مجديا ربما. وبالوصول إلى مرحلة متقدمة من المواجهات التى أضحى العنف، غير المتوازن بالتأكيد، هو سمة من سماتها، صار من الضرورى النظر بتمعن أكثر فى دروس المدرسة الثانية الأكثر واقعية والتصاقا بطبيعة الأحداث. من الصعب حتما الحسم بين المدرستين واعتبار أن الأولى مثالية والثانية واقعية. ولكن يمكن الاعتقاد بأن النخبة السياسية والثقافية المعارضة فى سوريا أمام مسئولية كبرى تتمثل فى ضرورة تعزيز إحدى هاتين المدرستين أو دمجهما بصورة تؤدى إلى إنتاج خطاب سياسى واضح ومشروع مستقبلى شامل يطمئن جميع مواطنى سوريا إلى أنهم فقدوا الغالى والرخيص من أجل غد أفضل بالتأكيد.