من الدلنجات إلى النقراش - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الخميس 16 مايو 2024 10:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من الدلنجات إلى النقراش

نشر فى : الثلاثاء 12 مارس 2024 - 7:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 12 مارس 2024 - 7:56 م

الدلنجات اسم رنان لبلدة فى غرب الدلتا يصعب أن ينساه أحد. الاسم الأصلى للقرية هو «دلنجة» وتحرك أهلها إلى موضع أكبر استوطنوه قرب قريتهم الصغيرة فصار الناس يطلقون عليهم فى موقعهم الجديد «الدلنجات» أى «الوافدون من دلنجة».
الموقع الذى تشغله الدلنجات اليوم حمل مسمى سابقا اندثر تقريبًا ولم يعد يعرفه أحد إلا القليل من أبناء القرية. الاسم أطلقه الأعراب الوافدون من الصحراء الغربية حين وجدوا مكانًا على أطراف الصحراء والدلتا طيب المعيشة والإقامة فأسموه «طيبة» وبالتحديد «طيبة الاسم» وتحولت فى سجلات الإدارة فى مطلع القرن العشرين إلى «الاسم الطيب». «دلنجة» فى لهجة أولاد على لا تحمل معنى مهذبا وبالتالى فإن تسيمتها «الاسم الطيب» هو معكوس معنى «دلنجة».
الطريق إلى الدلنجات هادئ وناعس، إذ تمر الرحلة من إيتاى البارود عبر قرى وعزب تتجمع على جانبى الطريق تلتهم الأرض الزراعية، انطلقنا من موقف سيارات إيتاى البارود، جربت أن أسأل بعض ركاب الحافلة عن معنى أسماء البلاد التى نمر بها فحصلت على إجابات مسلية للغاية. مررنا على قريتين متتابعتين هما «خمارة» و «دقدوقة» فتطوع رجل خمسينى قائلًا: «الخمارة كانت محطة للإنجليز يسكرون فيها وكان الأهالى يتربصون بهم عند «دقدوقة» ويدقونهم فيها ضربًا وقتلًا»!
أعادنى هذا التفسير الخرافى إلى إجابة زميلى بأيام الدراسة الجامعية فى القاهرة حين سألته عن معنى القرية التى يسكن فيها وتحمل اسم «صفط اللبن». زميلى آنذاك كان أمينًا فقال: لا أعرف، ولكنه عاد إلى أهل القرية لمعرفة الخبر وجاءنى بعد أسبوع وهو لا يتمالك نفسه من الضحك قائلًا: يقول كبار السن فى القرية إن عراكًا وقع بين الأهالى الوطنيين والاحتلال الإنجليزى وكان عراكًا حامى الوطيس أصاب قتلى وجرحى وخلقا كثيرا من الطرفين، حتى اضطر الإنجليز أمام شراسة المقاومة إلى طلب الصلح وانتهى الأمر بأن قال كل طرف للآخر «صافى يا لبن؟ صافى يالبن!» ومن هنا جاءت صفط اللبن! انفجر الضحك بعد هذا التفسير العبقرى الخرافى، ولا تزال هذه الحكاية هى أول ما نتذكره حين نلتقى على فترات متباعدة منذ أيام التلمذة التى مر عليها الآن ثلاثة عقود. الناس معذورة، من سيعلمهم أن «سفط» مسمى محرف لاسم معبود مصرى قديم منذ آلاف السنين، أما اللبن فعلى الأرجح إشارة إلى البيوت التى كانت تبنى من الطين.
ولولا أن فى يدى صفحات محمد رمزى ما عرفت أن «خمارة» اسم محفوظ فى الدواوين المصرية قبل الإنجليز بقرون من أيام «ابن مماتى» أى قبل ٨٠٠ سنة وكان الاسم الأصلى هو «الخمارتين» أما دقدوقة فاسمها الأصلى القديم «دكدوكة» وربما للاسم معنى بكلمة دك ودكوك ومدكوك التى تشير إلى طبيعة الأرض وسطحها. وصلت الحافلة إلى محطة الوصول، دفعت أربعة جنيهات ثمن الأجرة شكرت رفقاء الرحلة على الإجابات الطريفة وبدأت تجوالى فى البلدة.
أول ما يقابلك فى «الدلنجات» تمثالٌ لفكرة حلوة وتنفيذ متواضع. تقوم الفكرة على إعطاء البلدة سمة مميزة احتفاء بالمكون الأساسى من أهلها من القبائل العربية. يحمل التمثال اسم «الفارس العربى».
فى نهاية القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20 ذهب بعض المستشرقين الذين درسوا القبائل العربية فى مصر إلى القول بأننا حين نتحرك من شرق الدلتا نحو سيناء يقابلنا نموذج مصغر لشبه الجزيرة العربية بينما يقابلنا نموذج مصغر للجزائر وبلاد المغرب حين نغادر الطين فى غرب الدلتا نحو رمال الصحراء. وحين رأيت أحد سكان الدلنجات يرتدى زيًا يشبه زى الأشقاء فى ليبيا بالصديرية الملونة والعمامة المميزة بأهل المغرب سألت بعض من تعرفت عليهم عن أهم القبائل العربية هنا فأخبرونى أن «الشوالحة» «والقذاذفة» هم الأكثر شهرة.
فى الشارع الرئيسى قد تظن لحظة أنك فى بولاق أو إمبابة بالقاهرة، وربما فى مطاى بالمنيا؛ فكل القرى والبلدات المصرية صور مستنسخة لا إبداع فيها. أما هذا التمثال فيحاول أن يخبر الناس ببعض من المكون السكانى وتاريخ المكان.
للدلنجات مدخل آخر ناحية طريق الإسكندرية، أقيم عليه مجمع تجارى ضخم ينتظر الافتتاح بعد أن التهم أجود الأراضى الزراعية أمام مدخل المدينة. المجمع يشبه المجمعات الكبرى فى الإسكندرية والقاهرة، عمارة فخيمة وديكورات مبهرة مما يعكس مراهنة أصحاب المشروع على ثراء أهل البلدة.
غير أنه فى محاولة لإيقاف التوسع على الأرض الزراعية أقامت الدولة فى العقود الماضية مجمعين للسكن المخطط من عمارات مرتفعة لكنها لا تستوعب سوى القليل من العدد المتزايد من السكان.
غادرت الدلنجات قاصدا «النقراش».

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات