درويش برلين - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 9:58 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

درويش برلين

نشر فى : الأربعاء 12 أكتوبر 2016 - 9:15 م | آخر تحديث : الأربعاء 12 أكتوبر 2016 - 9:15 م
آثر الدرويش البقاء فى القاعة الكبيرة رغم انتهاء العرض، لم يثنه صمت المكان، ولم تغير رأيه الظلمة التى غرق فيها المسرح بعد أن غادره المشاركون. جلس على أحد كراسى صالة العرض يردد كلمات الأغنية الأخيرة، فاتحا ذراعيه، مستمدا بعضا من بقايا الطاقة التى نسجتها الفرقة الموسيقية كغطاء من الحرير الناعم أثناء عزفها أمام الجمهور، فقد كادت الطاقة أن تكهرب الحضور من شدة قوتها خلال العرض.

الزمان هو يوم خريفى مشمس اختلطت ألوانه الصفراء والحمراء والبرتقالية بزرقة السماء، المكان هو مبنى على ضفة نهر فى مدينة أوروبية معروف عنها أنها تعج بالثقافة وبالفعاليات الثقافية على مدى السنة. فى ذلك اليوم بالتحديد، اجتمع فى المبنى كم هائل من المواهب الشابة فى مهرجان ثقافى، طغى حب الناس لبلدهم وحنينهم إليه على كل العواطف الأخرى فيه. فى المبنى التقى شبابا وشابات كانوا قد حملوا أحلامهم فى بقجة فتحوها فى المهجر منذ شهر أو عام أو عشرة أعوام. فى ذلك اليوم تحديدا فتح كل منهم صندوق الدنيا خاصته، وعرض على من حضر اللقاء إيمانا لا ينتهى ببلدهم، من خلال عروض فنية وموسيقى ونقاشات فكرية وإنسانية، بل حتى طبخ أكلات من هناك، فاختلطت روائح الزعتر بزيت الزيتون بينما داعبت الأنوف رائحة الثوم المخلوط بالكزبرة. فاض الحب من قلب الشباب خلال الفعاليات وسرح فى الهواء يستنشقه كل من كان موجودا، فبدا الحاضرون وكأنهم ثملون، وهم يتنقلون بين قاعات العرض، يتنفسون رائحة زيت الزيتون، ترشدهم آذانهم إلى نغمات القانون والطبلة، يجولون ببصرهم فى أماكن يعرض فيها الفنانون أعمالهم المسرحية.
***
الدرويش الصغير تدلى من أذن إحدى الزائرات، فهو قطعة من حلق تلبسه السيدة فى أذنيها كل مرة تشتاق فيها إلى أصوات منشدى الجامع الكبير فى حلب، وتشعر أن روحها تحاول الوصول إليهم هناك، حيث كانت تجلس فى كل زيارة لها إلى مدينة جدها كى تستمع إلى أصواتهم، وهم يرددون معا «مدد مدد مدد». اشترت الحلق من محل فى القاهرة صاغ القرطين من الفضة، وباتت تستبشر خيرا كلما وضعتهما فى أذنيها، فالدرويش الصغير يفاجئها فى كل مرة بلقاء جديد أو خبر جميل. تلبس السيدة الرجلين المتصوفين الصغيرين فى أذنيها كمن يزور مقام الشيخ محيى الدين بن عربى فى دمشق، تلمس كلاً منهما عدة مرات فى حركة لا شعورية منها، وكأنها تريد أن تتأكد أن من لمسته منهما مرتاح، سعيد بلقاء من تحب هى، راضً عن الحديث وعن الحب المتطاير من حولها.

زارت السيدة مقام الشيخ محيى الدين بن عربى فى دمشق عدة مرات حين كانت طفلة، فجدتها كثيرا ما كانت تعرج عليه فى طريق عودتها من السوق. لم تكن تفهم معنى أن تمسح جدتها وسيدات كثيرات كن يزرن المكان أيديهم على سور المقام، لكنها لم تسأل عن معنى ذلك فى حينه، وبقيت فى ذهنها صورة جدتها هى تتمتم بأدعية لا تسمعها وهى تغمض عينيها لثوان معدودة قبل أن تمسك بكيس المشتريات بيد وبكف حفيدتها الصغيرة بيدها الأخرى، وتخرج بها من المقام إلى الشارع.
***
اجتمع الشباب والشابات على مدى ثلاثة أيام، ففتحوا قلوبهم وعقولهم وتواصلوا بشكل تلقائى، وكأنهم خرجوا من فصل حضروه للتو معا فى الجامعة. منهم من كانوا فى الأصل أصدقاء، ومنهم من دخل على المجموعة بطبيعية فأكمل حديثا كان يدور قبل أن يصل هناك، فى ذلك المبنى على ضفة نهر هادئ، شعروا وكأن الزمن قد توقف بهم فى لحظة خلقوها لتدوم، لحظة لم يكن مهما خلالها أن يتذكروا ما الذى أتى بهم إلى هنا، إلى برلين، بقدر ما شعروا أنهم، بحماسهم وصدق لحظتهم، إنما قد ملكوا العالم وأمسكوا بمفاتيح مستقبلهم، لا صوت طائرات حرب فى رأسهم ولا قلق على ذويهم فى قلبهم.

اللحظة هى الآن، وفى القاعة دقة طبول تواكب نغمة «وين ع رام الله»، تلك الأغنية التى لا يمكن لهم أن يسمعوها دون أى يهبوا لرقص الدبكة. المكان هو هنا، حيث الشباب والطاقة والإبداع والحب والحنين والحزن والشجن والمستقبل والماضى والحاضر ووعيهم بآنية اللحظة، ورغبتهم أن يغرقوا فى جمالها، فلا يتوقفون عن الدوران وسط الموسيقيين، ووسط بلادهم، التى لفظتهم لكنهم أجبروها على أن تعيش معهم هذه اللحظة، أجبروها على أن تتذكرهم، هم أبناؤها وبناتها الذين لا يرغبون سوى بالحياة فيها، أو بعيدا عنها إنما بخيارهم وليس لأنهم أجبروا على الرحيل، حاملين بقجة أحلامهم وخيباتهم على ظهرهم وفى قلبهم.
***
تلمس السيدة إحدى أذنيها فى آخر الحفلة فتجدها عارية، تتلفت حولها وتنظر إلى الأرض تحت مقعدها فلا تجد الدرويش. تقف حائرة بينما يخرج الناس من القاعة، تنظر عند قدميها من جديد لكنها لا تجد أثرا له. تمشى ببطء نحو باب الخروج وصوت آلة القانون ما زال فى رأسها، تفكر بقرار الدرويش الصغير فى أن يخلد تلك اللحظة، فيبقى هنا فى الصالة، حيث غلفته نشوة الحب وجرفته إلى بحرها. قرر الدرويش البقاء حيث شعر بطاقة الحب التى يبحث عنها أى متصوف، الحب الشفاف الإنسانى الدافئ الذى لطالما استجداه، فاتحا يديه مرددا «مدد مدد مدد» فى صوت خافت لا تسمعه سوى السيدة.
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات