تبلغ بعض «المعلومات» التاريخية المتداولة درجة من الثبات في ضمائر الناس تُصَعِّب على البعض معارضتها بينما تغري البعض الآخر مثلي بطرح نظريات مخالفة لها.. بشكل شخصي، أجدني ضعيفًا أمام إغراء ممارسة «المشاكسة التاريخية» لبعض هذه «الأفكار».
ومن تلك الموضوعات مسألة أن مصر تعيش في ظل «الحكم العسكري منذ ستين عامًا».. فبعضنا يتعامل معها باعتبار أنها حقيقة لا جدال فيها، بينما يقول البعض الآخر بأن مصر لم تعرف منذ الفراعنة سوى حكم العسكريين.. وبشكل عام فإن تناول هذه الموضوعات يحتاج من المشتغل بالتاريخ لأن يفحص «جسم التاريخ» بأكمله تمامًا كما يراجع الطبيب «التاريخ الطبي/ Medical history» للمريض. وليسمح لي القارئ باستخدام وصف «المريض»، فأنا - مع احترامي لكل الآراء - أرى أن أي نظام حكم غير النظام المدني الديموقراطي هو حالة مرضية تستحق العلاج..
فلنضع جسد المريض إذن ونفحصه..
***
مع الاحترام للرأي القائل بأن مصر تعيش تحت ظل حكم العسكريين منذ بداية نشأة الدولة ونظم الحكم على أرضها، فإنني أجد ذلك الرأي على شيء كثير من المبالغة. فمصر قد قطعت قرونًا كثيرة من تاريخها القديم دون أن يكون لها جيش موحّد بل كان الاعتماد على جمع المقاتلين من الأقاليم في أوقات الحروب وقد استمر هذا الوضع حتى عهد حروب تحريرها من الهكسوس على يد سقنن رع وخليفتيه كاموس، ثم أحمس، وحتى بعد ذلك فإن كون عرشها قد تولاه نموذج لـ«الفرعون المحارب» مثل عهود تحتمس الثالث ورمسيس الثاني وحورمحب - فإن تولي المحاربين من الفراعنة الحكم لم يكن قاعدة تستحق وصف «نظام الحكم»، وفي عصور الاضمحلال الأخيرة للدولة الفرعونية كانت الدولة قد عادت للتخلي عن الجيش الموحد ليتولى المرتزقة اليونانيون والليبيون مهمة القتال ضد العدو الخارجي، وحتى في العصر البطلمي فإن خلفاء بطليموس الأول سرعان ما ركنوا للدعة والترف ليسلموا البلد بعد ذلك للاحتلال الروماني ثم البيزنطي، وخلال العصرين الأخيرين فإن مصر لم تكن دولة مستقلة حتى يكون لها نظام حاكم؛ عسكريًّا كان أم مدنيًّا، ولم يكن المصريون معترفين بأي شكل من الأشكال بالسلطة الحاكمة حتى نعتمدها تاريخيًّا كنظام مصري..
يأتي بعد ذلك الفتح العربي لمصر وتتتابع الأنظمة عليها بين خلافة راشدة ثم دولتين أموية وعباسية، فرغم أن بعضًا من الولاة كانوا من المحاربين أو القادة العسكريين، بل وتمكن بعضهم من الحصول على نوعًا من الاستقلالية عن الحكم المركزي - كالطولونيين والإخشيديين - إلا أن حكم هؤلاء العسكريين لمصر لم يكن متواترًا ومتتابعًا بالشكل الذي نصفه معهم بـ«الحكم العسكري».
حتى جاء الفاطميون ونقلوا عاصمتهم من المغرب العربي إلى القاهرة.. هنا نجد البداية الفعلية لقصتنا..
***
عندما أقام الفاطميون دولتهم في مصر كانت السلطة متدرجة بين الخليفة الشيعي يليه وزيران أحدهما مدني (وزارة القلم) والآخر عسكري (وزارة السيف)، ثم قادة الجند الذين كانوا من الترك والسود والقبائل المغربية المهاجرة إلى مصر، كان نظام «الدولة الدينية» هو السائد حيث كان الخليفة الفاطمي بمثابة «الإمام المعصوم» الذي تجب طاعته في أمور الدنيا والدين..
استمر هذا النظام حتى سنة 1074م عندما استدعى الخليفة الفاطمي المستنصر بالله القائد الأرمني بدر الجمالي، والي عكا، مستنجدًا بعونه من الكوارث التي تكالبت على الدولة..
ففي هذا الوقت كانت مصر تعيش وضعًا كارثيًّا بشعًا: فالاقتصاد كان قد انهار وعانى الشعب من مجاعة طاحنة بلغت حد أن انعدمت الأقوات وأكل الناس الكلاب والقطط بل وأحيانًا البشر، والوضع الأمني بلغ من التردي حد انتشار السرقة والقتل بشكل دائم، وسياسيًّا تهاوت سلطة الخلافة ونشب القتال بين طوائف الجند من مغاربة وسودان وأتراك..
وصل بدر الجمالي إلى مصر وبصحبته مئة مركب محملة بجنود أرمن كان قد اشترط مسبقًا مجيئهم معه، وفي حضرة الخليفة جرت مراسم توليته منصب وزارتي السيف والقلم حاملًا لقب «أمير الجيوش» لتدخل مصر في حكم عسكري صريح قام خلاله بإصلاحات اقتصادية وأمنية وعسكرية وسياسية ناجحة، كما قام بالحجر على الخليفة حتى لم يعد له من الخلافة سوى اسمها، كما دبر المذابح للجند المغاربة والسودان وقام بإقصاء الجند الأتراك بينما جعل السيطرة لبني جنسه من الجند الأرمن..
من هنا بدأ عصر ما يُسَمى بـ«عصر الوزراء في الدولة الفاطمية» حيث توالى على السلطة وزراء كلهم ذوو خلفية عسكرية جمعوا بين السلطتين الحربية والمدنية، وسيطروا على الخلفاء إلى حد تدخلهم في توليهم العرش، وكانت عهود أغلب هؤلاء الوزراء تنتهي عادة بالاغتيال والتآمر من الأقوى على سلفه حتى وقع الصراع بين الوزيرين شاور وضرغام إيذانًا بنهاية الدولة، والتي جاءت على يد كل من القائد أسد الدين شريكوه وابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب لتنتقل مصر إلى العصر الأيوبي..
***
في أواخر أيام الدولة الفاطمية دارت رحى الحرب بين كل من شاور وضرغام سعيًا للاستحواذ على منصب الوزارة، وبلغت الوضاعة بكليهما حد الاستعانة تارة بالدولة الزنكية القائمة في الموصل وحلب والتي كانت موالية للخلافة العباسية المعادية للفاطميين، أو حتى الصليبيين الذين كانوا يحتلون بيت المقدس ومدنًا من الشام وهم يعادون - بطبيعة الحال - كل العرب والمسلمين.. هنا أدرك السلطان الزنكي نورالدين محمود أن الوقت قد حان لضم مصر لمشروعه لتوحيد الجبهة العربية ضد الفرنجة فأرسل القائدين شريكوه وصلاح الدين إلى القاهرة؛ حيث خاضا أكثر من معركة ضد كل من ضرغام ثم شاور تارة أو ضد الصليبيين تارات، حتى تحقق النصر بالقضاء على الوزيرين المتنافسين ثم نجاح شريكوه في دفع الخليفة الفاطمي الأخير العاضد لتوليته الوزارة سنة 1169م، والذي انتقل بوفاته في نفس العام لابن أخيه صلاح الدين..
كان العاضد يطمع في أن يكون صلاح الدين ألعوبة في يده نظرًا لصغر سن هذا الأخير، ولكنه لم يكن مدركًا أنه قد وقع في يد داهية أريب، فضلًا عن أن صلاح الدين كان يدرك تعقيد وضعه فهو من ناحية وزير لخليفة فاطمي بينما هو في ذات الوقت من ناحية أخرى قائد للسلطان الزنكي الخاضع - ولو اسميًّا - للخليفة العباسي.. وسرعان ما استطاع صلاح الدين التغلب على المؤامرات الفاطمية الرامية لإخضاعه أو التخلص منه وقام بإسقاط الدولة الفاطمية نهائيًّا والاستقلال بحكم مصر والشام سنة 1171م مؤسسًا الدولة الأيوبية..
الدولة الأيوبية .. عسكرية صرفة
كانت الدولة الأيوبية دولة عسكرية صرفة بسبب ظروف نشأتها والظروف السياسية والعسكرية المحيطة بالمنطقة العربية فضلًا عن الطبيعة القتالية لتلك الأسرة الكردية وانشغالها بالجهاد الداخلي في إعادة توحيد الدولة العربية، والجهاد الخارجي في طرد المحتل الأوروبي من المشرق.. فكان سلاطين الأيوبيين بحق ملوكًا مقاتلين، وكان نظام الحكم بالدولة ومواردها وسياساتها الداخلية والخارجية كلها تصب في المجهود الحربي ضد الصليبيين سواء في انتزاع ما تملكوه من أراضٍ عربية أو التصدي لحملاتهم على الشام ومصر والرامية لإعادة احتلال البقاع التي طُرِدوا منها.. والقارئ لسير أولئك الملوك يجد أن حياتهم كانت عبارة عن سلسلة من المعارك الحربية والسياسية.
ولأن الدول غالبًا ما لا تُقتَل بيد عدو خارجي قبل أن تنتحر هي بخنجر الصراعات الداخلية فإن الدولة الأيوبية قد مالت شمسها للغروب بالاقتتال الداخلي بين أبنائها الذين تصارعوا على العرش في وقت كان فيه الصليبيون يستعدون لجولة جديدة من الصراع والمغول يبتلعون الأرض العربية تلو الأخرى ويرمقون مصر بطمع شديد.. هنا كان على دولة فتية ناشئة أن تتسلم الراية: دولة المماليك..
*****
دولة المماليك
سنة 1250م بدأ عصر دولة المماليك في مصر والشام بتولي «شجرة الدر» الأرمينية السلطنة.. كان نظام اتخاذ الخلفاء والملوك للمماليك المقاتلين قديمًا. يمتد منذ عهد المعتصم بالله العباسي الذي استكثر من المماليك الأتراك، وهو نظام اتبعه كذلك الفاطميون والزنكيون وبلغ ذروته في عهد السلطان الأيوبي نجم الدين أيوب الذي جعل منهم خاصّته المقربة ورجال حكمه..
صعد نجم هؤلاء المقاتلين القادمين من آسيا الصغرى وشرق أوروبا عندما تولوا التصدي لحملة لويس التاسع الصليبية على مصر بعد وفاة أستاذهم نجم الدين أيوب.. ثم سرعان ما انفردوا بالحكم عندما واجه البلاد فراغً سياسي كامل.. كانت فكرة تولي هؤلاء القوم الذين مسّهم الرق في بداية الأمر مرفوضة من المصريين ومن بقايا أمراء بني أيوب في الشام، ولكنهم سرعان ما اكتسبوا شرعية لحكمهم بتصديهم لمؤامرات الباقين من الأيوبيين وإرضائهم أهل مصر والشام بما بذلوا من جهاد وما حققوا من انتصارات على الصليبيين والمغول..
وكما كان نظام الحكم الأيوبي عسكريًّا فإن النظام المملوكي كان أكثر عسكرية، فالمماليك كانوا أصلًا رقيقًا تم شراؤهم خصيصًا لتدريبهم على القتال وإدراجهم في الجيش.. وقد استمر هذا النظام خلال دولتهم، فكان كل أمير كبير يقوم بشراء المماليك صغارًا ويتولى متابعة تدريبهم الحربي وتربيتهم على الولاء للإسلام وله شخصيًّا فكانت تربطهم به رابطة «الأستاذية» التي تقوم على الطاعة العمياء بينما تربط كل منهم بالآخر رابطة «الخشداشية» وهي أشبه بالأخوية.. كما كان الانعزال عن العامة من أساسيات هذا النظام الحاكم فانقسم المجتمع إلى طبقة عسكرية حاكمة وطبقة من العوام الموصوفين بـ«الحرافيش» و«الغوغاء» وبينهما طبقة من علماء الدين والقضاة الشرعيين تولت التواصل بين الطبقتين سالفتي الذكر..
وبينما كان المعروف عن النظم الملكية أنها وراثية في الأساس فإن المماليك في غالب الأمر لم يلتزموا النظام الوراثي في تولي السلاطين إلا فيما ندر.. فقد كان الذي يفوز بالحكم هو الأمير صاحب السطوة الأعلى والقدرة الحربية الأكبر والمؤيدين الأكثر بين باقي الأمراء، أي أن الحكم في الدولة كان لمن غلب، ولهذا فقد كانت الانقلابات العسكرية والاغتيالات أمرًا يزدحم به التاريخ المملوكي..
بلغت بهذا مصر ذروة عسكرة الدولة في العصور الوسطى، فالأراضي تم تقسيمها لإقطاعات على رأس كل منها أمير مقاتل، وموارد الدولة كانت حكرًا على طبقة المماليك، والضرائب الفادحة بل والمصادرات لأموال الأغنياء كانت من مصادر تغذية الجيش خاصة في النصف الثاني من العصر المملوكي، بل وكثيرًا ما كان السلطان يجمع قضاة المذاهب الأربعة محاولًا الحصول منهم على فتوى تبيح له وضع يده على أموال الأوقاف للإنفاق على «التجريدات» الحربية الموجهة هنا وهناك..
وبطبيعة الحال فإن ذلك النظام السياسي كان يقود البلاد بخطى حثيثة إلى الانهيار بسبب تلك السياسات المالية الفاسدة والاستنزاف الفادح لموارد كل من الدولة والشعب، إضافة لسيطرة جو المؤامرات والدسائس والخيانات على الطبقة الحاكمة في نهايات ذلك العصر حتى كانت النهاية الطبيعية هي سقوط مصر والشام في قبضة الغزاة العثمانيين بقيادة سليم الأول سنة 1517م
***
فور إحكام المحتلّين العثمانيين قبضتهم على مصر وقضائهم على آخر شكل للمقاومة متمثلًا في طومان باي الذي تم شنقه على باب زويلة، سارع سليم الأول إلى وضع نظام لحكم «إيالة مصر» (ولاية) يحقق له وللدولة استمرار السيطرة ويحقق للخزانة العثمانية القدرة على الاستنزاف الدائم لثروات مصر..
قام النظام على تعيين والٍ عثماني يمثل السلطان وتحته مجلس من «بكوات السبع وجاقات» - أي أمراء المقرات السبع للقوات - كما قسّم مصر إلى 24 مديرية يحكم كل منها أحد المماليك الذين دخلوا في خدمته ويتولى جمع الخراج والجزية منها، وجعل الوارد من تلك الأموال ثلاثة أقسام أحدها مخصص لدفع رواتب عشرين ألف جندي من المشاة واثني عشر ألفًا من الفرسان هم حامية العثمانيين في مصر..
طبيعة هذا النظام الإداري مثلت امتدادًا للنظام العسكري المملوكي، فرغم أنه كان من المفترض بالوالي أن يكون رأس السلطة في مصر، إلا أن الواقع جعل من المماليك والجند القوى المسيطرة في البلد خاصة وأن سياسة العثمانيين في شأن الولاة كانت تقتضي نقل الوالي قبل أن يكمل ثلاث سنوات أو خمس على الأكثر حتى لا تراوده نفسه بالاستقلال بالولاية.. بالتالي فإن هذا الوالي لم يكن يستطيع أن يوطد لنفسه في مصر بينما كانت أقدام المماليك راسخة في الأرض وأيديهم قابضة عليها..
وكما ورث المحتل العثماني نظام العسكرة المملوكي، فإنه أورث مصر كذلك صراعات المماليك، حيث استمر انقسامهم وتناحرهم على السلطة وعلى منصب «شيخ البلد» وهو لقب كان يُطلَق على القائد المملوكي القاطن بالقاهرة، حتى بلغ الصراع ذروته في أواخر القرن الثامن عشر في مشهد مأسوي تولى بطولته كل من إبراهيم بك ومراد بك والألفي بك، حتى انتهى ذلك المشهد بجنود «ساري عسكر الفرنسيس» نابليون بونابارت يحتلون الإسكندرية ويشقون بمدافعهم الطريق سريعًا إلى القاهرة لتدخل مصر في عهد احتلال جديد يستمر لسنوات ثلاث تليها بعد رحيله فترة من الاضطرابات السياسية التي تنتهي بقائد ألباني يتربع على عرش المحروسة اسمه «محمد علي باشا».
***
محمد علي
رغم أن الرجل قام بإصلاحات وإنجازات مدنية كبيرة بالذات في مجالات التعليم والزراعة والصناعة، إلا أن القارئ المتمعن في سيرته يدرك أن محمد علي باشا لم يتخلّ عن فكره العسكري في حكم مصر.. فالرجل قضى عمره يحاول بناء إمبراطورية يكون مركزها مصر ويمتد لها جناحان أولهما عربي في اتجاه الشام والجزيرة، والآخر أفريقي في عمق السودان وصولًا إلى الحبشة.. بالطبع هي رؤية تنم عن أن هذا الوافد الذي جاء إلى مصر في الثلاثينيات من عمره لديه فهم عميق للعمق الاستراتيجي والأبعاد الجغرافية لمصر وارتباطها بأمنها القومي..
كذلك فإنه أورث أبناءه «عسكريته» حتى أن اثنين منهما - إسماعيل وطوسون - قضيا نحبهما أثناء العمليات الحربية في الجزيرة العربية والشام، وأشهرهم على الإطلاق «القائد إبراهيم باشا» قضى عمره متنقلًا بين البلدان في الحروب التوسعية لأبيه.. وكانت موارد الدولة مكرسة في الأساس لتقوية الجيش المصري وتسليحه وبناء أسطول بحري قوي لتحقيق الاستقلالية عن الدولة العثمانية لتخرج مصر من كونها مجرد «إيالة» أو «باشوية».. وحتى الصناعات كانت منصبة في المقام الأول على خدمة المؤسسة العسكرية الناشئة، بل إن دراسة الطب والتمريض كانت في الأساس بغرض توفير الخدمات الطبية لهذا الجيش..
أما الموارد البشرية في مصر فكانت الوجهة الأولى لها هي الجيش، فقد شهد عهد محمد علي باشا نشأة نظام التجنيد الإجباري في مصر في العصر الحديث، وكان كل همه هو وابنه إبراهيم باشا أن يستكثرا من الجنود المصريين لتتحقق الاستقلالية سالفة الذكر وليتمكنا من تأمين الدولة الجديدة من أية محاولات عثمانية لإعادة فرض السيطرة عليها..
ومما يؤكد أن الدولة في ذلك العهد كانت تتمحور حول المؤسسة العسكرية هو أنه بعد أفول شمس هذا المشروع الاستقلالي في أواخر عهد محمد علي بسبب مؤامرات الباب العالي وتحالفاته مع القوى الأوروبية الخائفة من قيام دولة مصرية كبرى، وبعد أن اضطر محمد علي للتوقيع على معاهدة ألزمته بالاقتصار على عدد معين من أفراد الجيش والامتناع عن بناء أسطول بحري إلا بإذن الأستانة، فإن اهتمامه بالنهضة الصناعية وبتعليم الطب والهندسة قد ضعف وأصابه الفتور..
وبعد وفاة محمد علي باشا سنة 1848م، تتابع على عرش مصر خلال حوالي الـ 34 سنة أربعة حُكام كان أولهم - عباس الأول - فاتر الهمة غريب الأطوار، وثانيهم – سعيد - مركزًا تفكيره وعمله على مشروع قناة السويس، وثالثهم – إسماعيل - مولع بـ«فَرْنجة» مصر، بينما كان رابعهم – توفيق - خائنًا إلى حد الاستقواء بفرنسا وبريطانيا على الحراك الداخلي في الجيش المصري..
خلال تلك السنوات لم يكن لمصر نظام حكم تستطيع أن تضع يدك عليه، فلا هي ولاية عثمانية بشكل كامل ولا هي دولة ذات استقلال كامل، ولا حكمها يوصف بالعسكري ولا تستطيع كذلك أن تصفه بالمدني.. والحق يقال إن عهد إسماعيل شهد بداية أن تتحرك المؤسسة العسكرية بنوع من الاستقلالية وتطالب بحقوق أبنائها من وزير الحربية الشركسي الذي كان يحابي بني جنسه، كبداية لأن يدخل الجيش كلاعب رئيسي في الأحداث السياسية مستقبلًا ثم يتوسع في ذلك حتى يصبح القوة الأكبر في الدولة..
وسنة 1882م احتلت بريطانيا مصر بذريعة «حمايتها»، وبالتالي فإن مصر بقيت لعدة عقود تحت حكم عسكري بريطاني حتى نالت استقلالًا صوريًّا سنة 1923م، سرعان ما ظهر زيفه بتوالي الأحداث التي اصطدم فيها الجيش الإنجليزي بشكل مباشر مع الشعب خلال ثوراته وانتفاضاته المختلفة، بل وبلغ الأمر ذروته بخلع «الجنتلمان» البريطاني قناعه وإظهاره حقيقته كاحتلال عسكري لا أكثر عندما حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين في 4 فبراير 1942 لإجبار الملك فاروق على تكليف مصطفى النحاس باشا بتشكيل الوزارة.. ذلك الحدث الذي كان من ضربات معاول القدر في كل من النظام الحاكم والاحتلال الخارجي حتى قام الضباط الأحرار بحركتهم سنة 1952 وخلعوا الملك وأجبروه على مغادرة البلاد، ليتولوا هم إدارة شؤون الدولة، ثم بعد ذلك تولى اللواء محمد نجيب الرئاسة قبل أن ينقلب عليه جمال عبد الناصر وتدخل مصر في مرحلة الـ«ستين عامًا» المذكورة من حكم العسكر..
****
لا أراني محتاجًا للحديث عمّا بعد 1952 فالغرض من المقال أصلًا هو ربطه بما قبلها وإلقاء الضوء على تسلسل الأحداث وحالة «التواتر» للحكم العسكري والتي لاحظتها خلال تتبعي تلك الظاهرة في التاريخ المصري.. المُلاحَظ كذلك أن دائمًا ما توافرت المبررات من الحاكم لفرض هذا النظام في مقابل توافر مسببات القبول من جانب المحكوم، حتى نصل إلى أن تتكون في المجتمع بشقيه «سلطة حاكمة» و«شعب» ما يمكن وصفه بـ«ثقافة الحكم العسكري»..
فحين بدأه المستنصر الفاطمي بجمع السلطتين المدنية والعسكرية لبدر الجمالي، العسكري أصلًا، كان المبرر هو المجاعة والانفلات الأمني والاقتتال الداخلي والفوضى التي تحتاج إلى رجل عسكري صارم لوضع حد لها، وحين قامت الدولة الأيوبية على نظام عسكري كان المبرر متوافرًا في وجود عدو خارجي، وكذلك في حالة «انقسام الدولة» المسيطرة على المنطقة العربية، وعندما طبّقه المماليك بشكل أكثر صرامة وصراحة كانت ذرائعهم تتنوع بين «التهديدات الخارجية» و«المؤامرات الانفصالية» و«فساد العربان واعتدائهم على أمن الرعية»، بينما كان العثمانيون يتعاملون مع سيطرة المقاتلين المماليك على أقاليم مصر من منطلق «هؤلاء أكثر الناس خبرة بالحكم وبكيفية السيطرة على مجريات الأمور في هذا البلد»، أما محمد علي فكانت أسبابه تتلخص في «بناء الدولة» و«النهوض بالوطن» و«إعمار البلاد».. وكلها كما نرى ذرائع ومبررات متوافرة حتى يومنا هذا، وكما لاقت قبولًا شعبيًّا فيما مضى فإن الأمر الآن يبدو أشد رسوخًا؛ لأنه تحوّل من مجرد «توجه شعبي عارض» إلى «ثقافة شعبية لها درجة من الثبات في الوجدان الجمعي للمصريين»..
في النهاية ما أرمي إليه هو لفت النظر إلى أن المجتمع ليس قريب العهد بـ«عسكرة الدولة»، وأننا لو أردنا معالجة تلك المشكلة فلا بد أن ندرك أبعادها التاريخية، وأن نعي أنها ليست وليدة الأمس القريب.. ولكننا للأسف نعاني من أننا ننظر للماضي البعيد باعتباره منفصلًا عن الماضي القريب وعن الواقع المعاصر.. بينما يحتاج علاج الداء إلى نظرة بعيدة إلى بداية ظهور أعراضه حتى وإن فصلتنا عنها قرون..