هى تجارب التاريخ وتحديات الحاضر والإرادة الجمعية التى إما تمكن الشعوب من صناعة نخب جادة تستطيع أن تقودها إلى العقلانية والحرية والتقدم والسلام أو تعجزها عن ذلك وتبقيها فى غياهب الغوغائية والقهر والتخلف والحروب.
لماذا يتواصل غياب النخب الجادة فى مصر المعاصرة؟ لماذا تتأرجح قطاعات شعبية واسعة بين مكارثية نخبة حاكمة تنتهك الحقوق والحريات ومكارثية نخب معارضة تدعى احتكار الحقيقة المطلقة، وفى الحالتين تتقلب البلاد بين صنوف الجنون والصخب؟ لماذا نندفع إلى إلغاء العقل ونستسيغ الحياة على حافة هاوية لا حلول بها لأزماتنا المستحكمة وتجرفنا بلا هوادة إلى قاعها؟
مسئولية إخفاقنا لا يتحملها الناس، وليس من العدل الزعم أن شيوع الفقر والأمية والأوضاع المعيشية المتدهورة هو العامل المتسبب فى سطوة الغوغائية والقهر والتأرجح بين مكارثيات حاكمة وأخرى معارضة. فمن جهة، لم يحل الفقر واسع النطاق ولم تحل أمية الأغلبية دون ظهور نخب مصرية جادة فى النصف الأول من القرن العشرين. ولم تعوق الأوضاع المعيشية المتدهورة، بل وآنذاك الاحتلال البريطانى والظروف الإقليمية والدولية المتفجرة، الانفتاح المصرى على تجربة ليبرالية فى إدارة شئون المواطن والمجتمع والدولة كان لها الكثير من القبول الشعبى. من جهة أخرى وبعيدا عن مصر، قديما وحديثا تظهر النخب الجادة والقادرة على بناء الديمقراطية وتحقيق التقدم فى الهند الفقيرة وجنوب إفريقيا صاحبة الماضى العنصرى المقيت أو تتراجع إلى حدود الغياب فى بعض مجتمعات أوروبا الشرقية على الرغم من جودة المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية أو تتعرض لأزمات متتالية فى الولايات المتحدة الأمريكية الغنية التى تواجه اليوم مع دونالد ترامب ومع صعود اليمين المتطرف لحظة غوغائية بامتياز.
ليست مسئولية سطوة الغوغائية والقهر فى مصر بقابلة للإلقاء على الناس، ويجافى الصواب أيضا اتهام القطاعات الشعبية التى تنجرف إلى مكارثية نخبة الحكم أو مكارثية النخب المعارضة بكونها لا تريد غير الاختيار السقيم بين المكارثيتين. خلال السنوات الماضية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، برهن الكثير من المصريات والمصريين على رغبتهم فى الحرية بطلب التغيير الديمقراطى فى ٢٠١١ وبالإصرار عليه عبر مشاركات شعبية مبهرة فى بين ٢٠١١ و٢٠١٣.
بل النخب هى التى تتحمل المسئولية الكاملة لإخفاقاتنا فى مصر. مرت تجارب تاريخية عديدة دللت على الفشل المحتوم لحكم الفرد ولانتهاكات الحقوق والحريات وتغييب الشفافية. أظهرت أحداث وتحديات الحاضر مأساوية التورط فى معارضة المكارثية الحاكمة بتوظيف العنف أو باستخدام مكارثية بديلة تعادى الحرية والديمقراطية. ولم تترك تقلبات الأحوال المصرية دون تفنيد وهم التقدم عبر حكم الفرد المتناقض مع مفاهيم الشفافية والمساءلة والمحاسبة أو من خلال معارضات ترفع يافطات الديمقراطية وليس بها ديمقراطيون وتدعى احترام الحقيقة والمعلومة وهى تهدرهما.
وعلى الرغم من كل ذلك، لم تتعلم النخب المصرية الدروس الواجبة ولم تنصرف لا عن الغوغائية ولا عن تبرير القهر ولا عن تبادل ادعاءات احتكار الحقيقة المطلقة زيفا باسم الوطنية أو الثورة أو الديمقراطية. تتحمل النخب مسئولية الإخفاق. ويتحمل المنضمون الجدد إليها دون مقاومة لسطوة الغوغائية والقهر وبحث عن العقلانية والحرية مسئولية التجديد المستمر لدماء النخب ومن ثم إطالة عمرها. والحصيلة هى صنوف من الجنون والصخب ومكارثية مفزعة ومهينة لمصر صاحبة التاريخ العريق.