اغتيال وطن - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأحد 29 سبتمبر 2024 6:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اغتيال وطن

نشر فى : الخميس 13 أكتوبر 2011 - 9:35 ص | آخر تحديث : الخميس 13 أكتوبر 2011 - 9:35 ص

لا شىء يدمى القلوب أكثر من اغتيال الأوطان، وقد جرت محاولات عدة فى الآونة الأخيرة لاغتيال مصر، لكن أكثرها بشاعة هو ما حدث يوم الأحد الدامى. ارتدت المحاولات ثوب الفتنة الطائفية، مع أنها بدأت كمطالب قبطية مشروعة أساء البعض التعبير عنها بالعنف، وجاء رد الفعل من قوات الشرطة والجيش بالغ العنف بدوره، وعلى هذا المسرح جرت محاولة الاغتيال. يخطئ كثيرا من يشرع فى تحليل ما وقع ابتداء من الأحد الدامى، فالمسألة أعمق من هذا بكثير تشير إلى أزمة وطن وليس إلى حدث عابر مهما كانت بشاعته، وهى أزمة يبدو مخيفا فيها أن جميع أطراف المشهد السياسى المصرى الراهن تقريبا تشارك فى صنعها.

 

نقطة البداية هى مفجرو الثورة الأصليون من خيرة شباب مصر، فقد اتحدوا لإسقاط رأس النظام السابق، لكنهم سرعان ما انتقلوا من الوحدة إلى حالة من التشظى أفقدتهم كثيرا من تأثيرهم فى الشارع السياسى، وفتحت الطريق أمام اتئلافات «انتهازية» وفئات من المراهقين الثوريين الذين يرفعون بحماس بالغ شعارات لا يدركون تبعاتها إن تحققت، ويتصرفون على نحو استعلائى يكاد يُخوِّن الجميع. ومن أسف أن معظم الأحزاب ــ خاصة الورقية منها ــ سارت فى ركابها وامتطت جواد المزايدات متصورة أن هذا يعزز شعبيتها الغائبة، مع أنه يقضى على البقية الباقية من وجودها بسبب تناقص التأييد الشعبى لـ«المليونيات الأسبوعية»، التى كانت لها جدوى وتأثير فى القضايا الكبرى، ثم تحولت إلى «مئويات» تفضح الوزن السياسى الحقيقى لأصحابها نتيجة الانقسامات وانفضاض الرأى العام من حولها. وعلى المنوال نفسه سارت أغلبية وسائل الإعلام التى زايدت بدورها على شعارات المراهقة الثورية خوفا على «صدقيتها» بين الجماهير التى ضاقت بها، وتحسبا لاتهامها بمعاداة الثورة.

 

هكذا أصبحت المزايدة السياسية قانونا شائعا، فتبارى الجميع على سبيل المثال فى انتقاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة والهجوم عليه، وإظهار العين الحمراء له، ولا بأس كذلك من إخراج البطاقات الحمراء لطرده من المباراة، وكلها سلوكيات ممجوجة ومرفوضة لأنها تقوض فرص النقد الواجب والموضوعى لأداء المجلس، سواء لما اتسم به من بطء فى اتخاذ خطوات ضرورية، أو عدم الوضوح فى الرؤية مما أدى إلى حالات من التخبط فى القرارات، ناهيك عن الخطأ البنيوى الذى تمثل فى وضع «خارطة طريق» تسبق الانتخابات البرلمانية فيها وضع الدستور الجديد على العكس مما فعلته جميع التجارب الثورية المماثلة.

 

فى السياق السابق أصبح «الانفلات» هو قانون المرحلة، فهو أمنى إذا ارتبط بالبلطجية، وهو سياسى عندما يرتبط بفلول النظام السابق، وهو اجتماعى فى ارتباطه بالمطالب الفئوية. وفى هذا السياق وجدت فلول الحزب الوطنى ــ وهى فلول ظاهرة وليست أشباحا نتوهمها ــ فى نفسها الجرأة لكى تطلق التحذيرات والتهديدات، وتتحدث عن غضبة الصعيد وكأنه ملك لها، وتثبت أنها على الرغم من تحكمها بالباطل فى حياته السياسية لعشرات السنين لا تفهم شيئا مما يجرى فيه. من هذا الانفلات يمكن أن نبدأ فى فهم أحداث الأحد الدامى.

 

●●●

 

لاشك أن لأقباط مصر مطالبهم العادلة، وقد سكتوا طويلا على عدم الاستجابة لها، ثم أخذوا يتحركون على استحياء فى البداية لتحقيق هذه المطالب، ثم بقوة بعد ذلك، وقد أشرت قبل ثورة يناير فى هذه الصفحة إلى ضرورة دراسة هذه المطالب والاستجابة للعادل منها وإلا فإن خطر تبلور شارع سياسى قبطى ينحو فى سلوكه إلى العنف سوف يكون أكيدا بما يؤثر على وحدة الوطن. وقد كان المتوقع أن تبادر «الثورة» إلى اتخاذ خطوات حقيقية تجاه تلبية المشروع من المطالب القبطية خاصة على ضوء المشاركة «الوطنية» العامة فى صنع الثورة دونما تفرقة بين مسلم وقبطى، لكن شيئا من هذا لم يحدث، بل لقد ساءت الأمور كثيرا بظهور قطاعات بالغة التشدد من السلفيين يبدو من سلوكها أن همها الوحيد فى الدنيا هو تحطيم دور العبادة المسيحية. بينما قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتحركات سريعة فى أحداث أطفيح وإمبابة شملت إعادة بناء ما هدم وترميم ما أصابه الضرر على يد هؤلاء على نفقة القوات المسلحة، فإن إدارة الأزمة تركت هذه المرة لمحافظ أسوان الذى يكاد أن يبدو من تصريحاته وكأنه سعيد بما فعله متطرفو محافظته بكنيسة ماريناب، فقد أكد عدم وجود ترخيص ببناء كنيسة، وكأن عدم وجود الترخيص يعطى الحق فى فوضى التدمير، كما برر عدم القبض على المتورطين بأنهم «شباب مندفعون متحمسون».

 

فى هذا الإطار من المفهوم أن يحتج الأقباط على ما حدث فى أسوان خاصة أن تراكمات ما قبله تفضى إلى النتيجة نفسها، لكن غير المفهوم أو المقبول هو درجة العنف التى اتسمت بها المظاهرات الأخيرة، وقد يقال إن قوى الأمن والجيش قد استفزت المتظاهرين، غير أنه من الواضح أن ثمة استعدادا مسبقا للعنف تمثل فى تسلح بعض المتظاهرين بالمولوتوف وربما الأسلحة البيضاء والنارية حسبما ذكر البعض، وقد أعطى هذا العنف ذريعة لعنف مفرط من قوات الأمن والجيش جاءت نتائجه على النحو المأساوى الذى شهدناه، كذلك فإنه من غير المفهوم أو المقبول أن يلجأ المتظاهرون إلى حرق ممتلكات عامة وخاصة. صحيح أن التخريب قد أصبح للأسف نموذجا مألوفا فى أعمال الاحتجاج فى الساحة المصرية، ولكننى ما كنت أريد لمطالب عادلة أن تتلوث على هذا النحو الذى يضيع المطالب الأصلية أو يقلل من التعاطف معها، وحسنا فعلت الكنيسة الأرثوذكسية بإشارتها إلى وجود مندسين بين المتظاهرين هم السبب فى انحراف المظاهرات عن غايتها لأننى أكاد أجزم بعقلى وقلبى أن هذا ما حدث بالفعل، وأتخيل فى هذه الأحداث وغيرها أن ثمة من يمسكون بالخيوط باقتدار من خلف المشاهد الدامية. كذلك ما كنت أتمنى أن ترتفع مطالب تنادى بالحماية الدولية، لأن هذا يشكك فى وطنية جزء أصيل من النسيج المصرى، فضلا عن أن الشواهد من خارج مصر تشير إلى أن أحدا لا يحمى أحدا.

 

●●●

 

أما عن إدارة الأزمة فحدث ولا حرج، فهى تكرر أساليب النظام القديم نفسها، وتفشل فى احتواء الأزمة أو تهدئتها ناهيك عن القضاء على مسبباتها. لم يكن هناك ابتداء تحقيق فورى فى أحداث كنيسة ماريناب يهدئ من الاحتقان القبطى، ولا مواجهة للمتهمين بهدم الكنيسة، ولم يكن هناك أى خيط رسمى يربط المواطنين بما يحدث، وإنما ترك الأمر للتليفزيون المحلى والفضائيات العربية وغيرها، ولكل منها أغراضه من التغطية الواسعة للأزمة بين الشماتة والتحريض فى عدد من الفضائيات والانحياز الواضح من قبل قناة التليفزيون المصرى الرسمية الأولى، وأتمنى على وزير الإعلام أن يجرى تحقيقا فى هذه النقطة تحديدا، ولم تخرج أى قيادة لتقدم للمواطنين تقديرا للموقف وتهدئهم وتوجههم، وخرجت الحكومة بعد مخاض عسير ببيان يحمل الكلمات الخشبية ذاتها دون أن يحدد موقفا أو يتحدث عن إجراء واحد تم أو ينوى اتخاذه، وغابت القيادات الدينية تماما عن الأزمة اللهم إلا بعض القساوسة، الذين لعبوا دورا فى محاولات التهدئة.

 

يرقد الوطن الآن فى غرفة العناية المركزة تتحلق حوله مجموعة من الأطباء البارعين المخلصين فى محاولة لإنقاذه من آثار محاولة الاغتيال، لكن المعضلة أن ثمة من يزاحمهم من أطباء قد يكونون مخلصين لكن سبل العلاج التى يقترحونها من شأنها أن تزيد من تفاقم معاناة الوطن. والمعضلة الأخطر أن إنقاذ الوطن مما ألم به شىء وتقوية مناعته كى يكون قادرا على مواجهة ما هو مقبل من تحديات جسام شىء آخر.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية