لماذا أصبح العالم جحيم المؤمنين وجنة الآخرين؟
تلك كانت الصرخة الأولى لمفكرى عصر النهضة الأولى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، جاءت بلغة العصر وباستخدام مفاهيمه، وحملت معها تساؤلا صاحب المفكر المصرى طوال الجزء الأكبر من تاريخنا الحديث: لماذا نهض الغرب، ولماذا تخلفنا؟
وكان من الطبيعى أن تتعدد الاجابات على هذا التساؤل وتختلف بتعدد واختلاف مدارس الفكر والعمل داخل الحركة الوطنية المصرية، حسب التعبير الجميل لأنور عبدالملك.
وكانت الإشارة إلى الغرب عند طرح قضية النهضة فى ذلك الوقت مفهومة تماما، فقد كان حضور الغرب فى بلادنا طاغيا وكاسحا.. بدأ بالتجارة التى جاءت بسلع الغرب الرخيصة نتاج الثورة الصناعية، التى عصفت بالتجار والحرفيين، وانتهى بالجنود والسلاح، مرورا بالمرابين ثم البنوك الغربية الذين اكتسحوا القطاع الزراعى.
ودارت الإجابات عن هذا السؤال حول محورين رئيسيين: الديمقراطية والحرية من ناحية، والعلم والتعليم من ناحية أخرى.
فعند الطهطاوى العظيم كانت الحرية والفكر والمصنع هم أدوات النهضة المنشودة، مع التأكيد المستمر على الديمقراطية والحرية، وعند محمد عبده، كان التعليم هو السبيل إلى نهضة الأمة.
<<<
مع ثورة الشعب المصرى الكبرى فى 1919، ومع تطور الحركة الفكرية المصاحبة لها بدخول قوى اجتماعية جديدة إلى قلب الحركة السياسية والاجتماعية بدأت قضية النهضة تطرح تدريجيا بمعزل عن الإشارة إلى الغرب، باعتبار أن أى مشروع للنهضة لا يمكن بأى حال أن ينجح إلا إذا أخذ فى الاعتبار خصوصية الأوضاع الداخلية وطبيعة الصراعات الدائرة داخلها، والتى تختلف تماما فى مصر عنها فى الغرب المستعمر المهيمن.
وبعبارة أخرى فإن مشروع النهضة لابد أن يستند إلى حقائق الواقع المحلى، ولا يمكن بحال نقله من الخارج بمعزل عن التاريخ الوطنى.
وفى هذا الإطار بدأت الحركات الاشتراكية بمختلف فصائلها تطرح قضية العدل الاجتماعى باعتباره أحد أهم الأسس التى ينبغى أن يستند إليها أى مشروع للنهضة فى مصر، إلى جانب الأسس الأخرى التى اعتمدتها الحركة الوطنية منذ القرن التاسع عشر.
وكان ذلك بفضل جيل من أنبل وأعظم مفكرى الحركة الوطنية طوال تاريخها الحديث، جيل أدرك أن مشروع النهضة هو مشروع مركب بالضرورة يقوم على أعمدة متعددة: الحرية والعدالة الاجتماعية والعلم والتعليم إلى جانب الصناعة بمعناها الواسع.
وظهرت أسماء عظيمة ونبيلة فى الفكر المصرى، لعبت دورا هائلا فى طرح جوانب مشروع النهضة المأمول.
ومن بين هذه الأسماء كان العظيم حامد عمار، الذى يصفه الجميع بشيخ التربويين، وهو وصف لا يحيط أبدا بمختلف جوانب الدور الهائل، الذى لعبه هذا العظيم فى تاريخ هذا الوطن، والذى يتجاوز بكثير دوره التربوى على أهميته.
فقد كان حامد عمار واحدا من أكبر منظرى مشروع النهضة المصرية الذى حلم به شعبنا، وناضلت من أجله الحركة الوطنية على طول تاريخها ابتداء من ثورة الفلاحين والتجار والحرفيين تحت قيادة أحمد عرابى، وانتهاء بثورة يوليو بقيادة العظيم جمال عبدالناصر، مرورا بثورة مصر الكبرى فى 1919.
حقا إن التعليم لعب دورا مركزيا فى فكر حامد عمار النهضوى، إلا أن قضية التعليم لم تطرح هنا بمعزل عن قضية العدل الاجتماعى ولا عن قضية الحريات والا عن السياسة بمفهومها الواسع النبيل
فبناء نظام تعليمى يصنع النهضة ــ عند حامد عمار ــ يقتضى الخروج أولا من إسار التبعية الاقتصادية والفكرية للقوى المهيمنة على عالمنا.
وبناء تعليم يصنع النهضة، يقتضى أن يكون هذا التعليم للفقراء والأغنياء معا، ومن هنا كان نضال حامد عمار الذى لا يكل ولا يهدأ للإبقاء على مجانية التعليم فى مواجهة نظام مبارك، عندما بدأ رجال أعماله حملتهم المجرمة ضد تعليم الفقراء، ومن أجل تحويل التعليم إلى مجرد مجال للاستثمار المالى لتنمية ثرواتهم المنهوبة من دم الشعب المصرى.
<<<
هذا المنظر العظيم للنهضة المصرية رحل عنا فجأة، ونحن فى أشد الحاجة إليه لمواجهة الهجمة الشرسة لرجال مبارك العائدين بقوة إلى الساحة المصرية، بما فيها الساحة التعليمية، ليعيثوا فيها فسادا مرة أخرى، بعد أن أقصتهم الثورة، عادوا ليتولوا مهمة إصلاح التعليم فى مشهد كوميدى عبثى من مشاهد مسرح اللامعقول.
فى هذا الوقت رحل الرجل النبيل العظيم حامد عمار، وكأنه أدرك أن العصر ليس عصره، وآن أوان النهضة قد انتهى.
وداعا حامد عمار.. طبت حيا وميتا أيها النبيل.