أعلم جيدًا أنه ليس من الكياسة فى شىء، بل من الحماقة الواضحة الجلية، أن يتطوع أحد، فى هذه الأيام، للدفاع عن قناة تليفزيونية تمارس هجومـًا عنيفـًا منفلتـًا قاسيـًا ووحشيـًا متوحشـًا، وخارج حدود اللياقة الإعلامية بكل مضامينها (ومن قبلها الآداب الإسلامية المتعارف عليها).
هجوم ضد الجميع تقريبـًا، لا يستثنى أحدًا، بدءًا من الذين تصفهم القناة بأنهم أعداء الإسلام والإسلاميين، وليس انتهاء بكبارات رجال الدين وفى مقدمتهم شيوخ الجامع الأزهر، ومرورًا بكل أطياف المجتمع من ليبراليين ويساريين، مدنيين ونشطاء وثوريين وروموز بعض جماعات الإسلام السياسى، وكذلك فئاته المختلفة من إعلاميين ومحامين وفنانين وحتى بعض القضاة لم يسلموا من الهجمات المفترسة لهذه القناة.
وأعلم جيدًا أيضـًا، أنه من الحماقة كذلك، أن يوافق أحد فى هذه الأيام، على وقف بث قناة تليفزيونية (أيـًا كانت القناة وأيـًا كان توجهها وأيـًا كانت هويتها) بحكم قضائى فى ظل رفض الجميع لمواد الدستور التى تسمح للمشرع بغلق ووقف وتعطيل وسائل الإعلام المختلفة بأحكام قضائية، باعتبار أن هذه المواد تفتح بابـًا خلفيـًا للقمع ومصادرة للحريات العامة، وغلق أى نوافذ ترغب السلطة فى وأد الآراء والأفكار التى تطل منها، ولو وافقنا على أى تعطيل أو غلق، ولم نعترض ولم نرفض ولم نحتج (لأن هذا الغلق أو هذا التعطيل على هوى البعض منا) هنا سيختل الميزان وتصبح العدالة غائبة، بل ويشوبها الفساد، لأنه من المفترض أن تكون القواعد عامة مجردة، والمبادئ واحدة، وأن تكون الحريات للجميع فى إطارها المتعارف عليه، والأهم أن يكون معيار الميزان واحدًا (الكيلو جرام سيظل ألف جرام لا يجوز عندما نشترى أن يصبح ألفـًا وخمسمائة جرام، وعندما نبيع لا يتجاوز الخمسمائة جرام). اتقوا الله ولا تخسروا الميزان.
وما بين الحماقتين، يشغلنى، بل ويؤلمنى، أن توجه اتهامات لبرنامج يحمل اسمه كلمات (الميزان والقرآن والسنة)، وأن تكون هذه الاتهامات مرتبطة بجرائم سب وقذف، وأن تعاقب محكمة هذا البرنامج، وأن يكون المتهم لصيقـًا باسمه وصف (داعية إسلامى) وربما تكون حماقة ثالثة ألا نلتفت إلى عمق المأساة التى تحاصرنا، وفى المقدمة منا الذين تسببوا فى الجريمة، والذين ينتمون لهذا المنهج، وأصحاب هذا النهج من هذا التيار، وأعتقد أن الفرصة سانحة لهم الآن لتصحيح ذلك كله.. (أليس منكم رجل رشيد).
وما بعد الحماقات، يظل السؤال الخالد يطاردنا مع كل أزمة تتعلق بحريات الإعلام والصحافة: «هل الصحفيون والإعلاميون على رأسهم ريشة؟» بالطبع لا، لكن المجتمع وناسه يجب أن يكون على رأسهم ريشة، لأن الصحافة والإعلام وكلاء عنهم، يطالبون بحقوق المجتمع، ويدافعون عن طلباته ومتطلباته، ويرفعون عنه الظلم، ويشكون للحاكم مظالمه، وحتى لو أخطأوا، يجب أن نرحمهم ونرحم الحريات.. خاصة فى ظل المناخ السياسى الذى نعيش فيه.. بدلًا من أن نترحم على أنفسنا..
(أتمنى ألا تكون السطور الأخيرة حماقة رابعة).