لا أتفق مع الذين يفترضون أن محمد خان يجب أن يقدّم كل أفلامه عن المدينة، وأن يحصر تجاربه فى أبطال من الطبقة الوسطى، أو من المهمشين الفقراء. الفنان حرّ تماما فى الاختيار، ومعيار الحكم على تجاربه هو العمل نفسه، وسؤالا الفن، والنقد أيضا، لا يتغيران أبدا، وهما: ماذا تقول؟ وكيف تقول؟
هذه نقطة أساسية قبل أن نتناول تجربة محمد خان الجديدة «قبل زحمة الصيف» عن فكرة له، وسيناريو وحوار غادة شهبندر، وحوار إضافى لنورا الشيخ. لهواة الشكل، فقط أقول إن الفيلم بالطبع بعيد عن المدينة، كما أنه محدود المكان، حيث ننتقل من الشاطئ فى قرية سياحية يسميها الفيلم «بلو بيتش»، إلى داخل كابينتين بالعدد، ثم نعود إلى الشاطئ، وبالعكس. الفيلم أيضا أبطاله خمسة أشخاص فقط، بل إن أحد هؤلاء يترك المكان، ويتبقى أربعة، هم الذين سيكملون الفيلم.
مرة أخرى، ليست هذه مشكلة الفيلم، بل إن خان يقصد ذلك تماما، أساس الفكرة كما فهمتها أن تعزل الأشخاص عن مدينتهم، إنهم هاربون منها حرفيّا لأسبابٍ مختلفة، الجديد فى الفكرة (وهى برّاقة فعلا) أن تؤدى هذه العزلة على الشاطئ، وقبل أن يزدحم المكان بالبشر فى الصيف، إلى أن تتصرف الشخصيات على راحتها من دون أقنعة، أن تتعرى نفسيّا وإنسانيّا واجتماعيّا وليس جسديّا فقط، أن تظهر رغباتها وميولها بدون رتوش أو تزويق.
تلك هى الفكرة التى فرضت شكلها: فليست هناك حدوتة، لا حبكة تقليدية، وإنما هى دراسة لحالات وأمزجة ورغبات الشخصيات فى عدد محدود من الأيام (تبدأ من الاثنين وتنتهى يوم الجمعة)، وهناك مشهد أخير للشخصيات على الشاطئ فى زحمة الصيف، يصف لنا كيف عادت هذه النماذج إلى حياتها العادية الصاخبة، بعد فاصلٍ قصير من اكتشاف الرغبات، ومواجهة الذات والآخر.
هنا تجربة مختلفة تستحق الاهتمام، ولكنها لا تبتعد جوهريّا عن عالم محمد خان، إذ إن الواقعية لا تعنى واقعية المكان فحسب، ولا تعنى التخصص فى التعبير عن شخصيات من طبقة أو فئة بعينها فقط، ولكن الواقعية بالأساس هى واقعية التعبير عن التفاصيل الإنسانية عند الشخصيات مهما كانت أماكنهم أو طبقاتهم، وفى كل أفلام خان تقريبا يعمل على العالم الداخلى للشخصية بنفس الدرجة التى يعمل فيها على مظهرها الخارجى، أو أماكن وجودها، وكثير من مشاهد أفلام خان الكبرى تقول فيها الوجوه أضعاف ما يقوله الحوار (راجع مثلا مشهد النهاية المهول فى فيلم «موعد على العشاء» الذى تُستخدم فيه كل مفردات المشاهد الرومانسية، بما فيها القبلات، وإضاءة الشموع، ولكنه ينتهى بتناول البطلين لطعام مسموم).
لدينا إذن طموح كبير جدير بالاعتبار فى الفكرة، ولكن ما شاهدناه لم يكن على مستوى هذا الطموح. مشكلة فيلم «قبل زحمة الصيف» فى رتابةٍ واضحة مصدرها اقتصار الانفعالات والتعبيرات على أنماط متكررة لا تتغير، كما أن بعض الشخصيات ظلت دوما ثابتة لا تنمو لا تتطور، وكانت جزرا منعزلة عن بعضها، تكتفى بالمراقبة، رغم أنها تلتقى وتتحادث وتثرثر وتتناول الطعام. إننا لم نشعر أن الشخصيات قد انفصلت عن بعضها فى مشهد الصيف الأخير، لأن علاقاتها الدرامية كانت هشّة بالأساس.
شخصيات أربع هم أساس البناء، وشخصية خامسة تظهر فى المكان ثم تغادره. هالة سرى (هنا شيحة) أبرز الشخصيات، وهى محور الصراع، نعرف عنها معلومات تكشف عن طبقة أرقى ثقافيّا واقتصاديّا، ولكن لديها حياة اجتماعية فاشلة، مترجمة مطلقة، ولديها ولد وبنت فى سن المراهقة، هربت من المدينة إلى الشاليه، لإنجاز نص تترجمه (لم نرها مرة واحدة تفعل ذلك)، ولكنها فيما يبدو تفرغت للقاء عشيق، استأجرت له شاليها مجاورا.
د. يحيى القاضى (ماجد الكدوانى) هارب أيضا من المدينة؛ لأنه مهدد بالمطاردة القضائية، بعد حادث إهمال طبى فى مستشفى استثمارى يشارك فيه من الباطن. د.يحيى ظريف ولطيف، يعشق النساء والطعام، وعلاقته مع زوجته د.ماجدة، رفيقة الشاليه، والتى لعبت دورها لانا مشتاق، فاترة تماما. هى مشغولة بجلسات التأمل، والتواصل مع ابنهما عبر الإيميلات، وهو يراقب هالة بالمنظار المقرب.
على هامش الحياة والمدينة والشاطئ، تعيش الشخصية الرابعة جمعة (أحمد داود)، الشاب الصعيدى، جناينى القرية، الذى حلّ محل أخيه أثناء إجازة زواجه، يشتهى جمعة جسد هالة، ويتمنى أن يجدوا له عملا كسائق بعد أن يعود أخوه إلى العمل، أما الشخصية الخامسة فهى هشام صالح (هانى المتناوى)، عشيق هالة، وهو ممثل فى الرابعة والأربعين من عمره، لا يعرفه أحد رغم ظهوره فى أعمال كثيرة، متعدد العلاقات النسائية، ولم يحقق شيئا من أحلامه بأن يكون فتى الشاشة ونجم الشباك الأول!
لا بأس فى ملامح الشخصيات العامة، ولكن الثغرات اتضحت فى ضبط علاقاتها، وفى تقديم تفاصيل ثرية تعمق وتنوع من مشاعرها وأحاسيسها، هنا تبدو مشكلة الفيلم: باستثناء العلاقة بين هالة وعشيقها هشام التى تقفز قفزا، وتتحول من النقيض إلى النقيض، فإن العلاقة بين هالة ود.يحيى من ناحية، وبين هالة وجمعة تقف حرفيا على الشاطئ، لا أعنى بذلك أنها كان يجب أن تتطور إلى علاقة جسدية، فهذا مستحيل فعلا لأسباب طبقية فى حالة جمعة، ولسيطرة الزوجة فى حالة د.يحيى، ولكن ما أقصده أن العلاقة ظلت ثابتة تتكرر فيها نفس المشاعر والتعبيرات بصورة رتيبة للغاية: نظرات اشتهاء من د.يحيى وجمعة، ولامبالاة من جانب هالة، بدا أحيانا أن المعنى وصل من مشهد أو اثنين، وأن الحكاية انتهت قبل أن تبدأ.
أما علاقة هالة بالممثل هشام فهى غريبة إلى حد كبير، هالة حسناء وهشام ثقيل الظل ومثير للسخرية وليس وسيما، ورغم أن علاقتهما جسدية بالأساس، إلا أنها تحاسبه كزوجة بسبب علاقته مع منتجة فيلمه الجديد، بل وتطلب منه رد نقود أقرضتها له من قبل، بينما كان هشام واضحا فيما يريده منها.
المأزق هنا أن المتفرج لا يمكن أن يتفهم صدمة امرأة تركت ولديها من أجل عشيقها صاحب الهيئة الكاريكاتورية، والذى كان واضحا فيما يريده منها، بنفس الدرجة التى لا يستطيع فيها أن يتعاطف مع جفاء د. ماجدة مع زوجها الظريف، مرة تتمنع عليه، ومرة تسمح له بأن ينضم إلى سريرها، ثم تهاجمه بعنف بعد موت الببغاء، وكل ما رأيناه يفعله هو مشاهدة صور عارية على الكمبيوتر، ومراقبة امرأة بالمايوه على الشاطئ (هى الوحيدة بعد طرد خواجاية وعشيقها فى وضع مخل)، والهروب إلى الشاليه خوفا من الملاحقة.
الشاب جمعة أيضا يبدأ الفيلم وينتهى بنفس الحالة، وتتكرر نظرات اشتهائه لهالة فى كل لقاء دون أى تطور، لذلك ظلت العلاقات الدرامية هشة رغم اللقاءات والحوارات المستمرة، بدا كل شىء متجمدا، غابت التفاصيل التى تلون المواقف، وتكررت الانفعالات، حتى مفردات المكان والإكسسوارات التى تصبح دوما من أبطال مشاهد محمد خان، ظلت هنا فقيرة ومحدودة للغاية سواء داخل الكابينتين أو فى مكان صغير يقيم فيه جمعة، وقد شاهدنا هذا المكان الصغير مرة واحدة فقط. شريط الصوت يخلو تقريبا من المؤثرات باستثناء صوت الرعد قبل المطر، والشخصيات تتكلم طوال الوقت، دون أن تترك الفرصة لكى نشعر بالصمت. هناك استخدام مميز للغاية لموسيقى ليال وطفة المعبرة فى مشاهد محددة، وهناك عناصر فنية جيدة للغاية مثل صورة فيكتور كريدى، وملابس نيرة الدهشورى، وديكور هند حيدر، ولدينا اختيار بارع لكل من أحمد داود وماجد الكدوانى فى دورين سيفوزان عنهما بجوائز كثيرة مستحقة، واختيار جيد لهنا شيحة التى اجتهدت كثيرا فى الأداء، ولكن الثنائى لانا مشتاق وهانى المتناوى كانا اختيارا غير موفق بالمرة: لانا يفلت منها التعبير عند إلقاء الحوار، وهانى يفتقد أصلا الجاذبية والحضور المطلوبين، ولو فى حدهما الأدنى، حتى نقتنع أنه يمكن أن يكون عشيقا لامرأة جميلة!
«قبل زحمة الصيف» تجربة باهتة رغم قوة فكرتها، ذلك أن مشكلة الفن هى كيف تقول وليست ماذا تقول، ظلت الشخصيات على شاطئ الدراما وعلى شاطئ البحر معا، وكأنها تكرر ما وصل إليك فى مشاهد معدودة، تبدأ وتعود لنفس النقطة، فلما ظهرت بمفردها فى نهاية الفيلم، لم نصدق أبدا أنهم كانوا معا طوال مشاهد الفيلم السابقة.