نخاف جميعا على الوطن من أى خطر يتهدده، نخشى على الدولة من السقوط ونفضل طريق الإصلاح مهما كان طويلا عن الهدم والقفز فى الفراغ، لكننا نؤمن أن البناء لا يبدأ قبل إزالة الركام ورفع الأنقاض، وندرك أن من يجربون المسارات نفسها التى قادت للفشل لن يحققوا أى نجاح وسيكررون الإخفاق بصور أكثر كارثية وأشد فداحة.
يصيبنا الضيق من كثرة الصرخات التى تذهب فى واد ونشعر أن الكلام يفقد معناه وأن العبثية تحكم كل شىء وأن اللاجدوى سيدة الموقف وتداهمنا الرغبة فى الصمت والانعزال والهجرة لمساحات الذات والانكفاء على الأولويات الفردية. ولكن وخزات الضمير تأبى إلا أن تصفعنا وتفيقنا وتقول لنا وما معنى الحياة إذا خذل المرء وطنه واعتزل شعبه رغم أى ألم يحاصره ورغم كل وجع يلازمه؟
للكلمة ثمن وللصمت ثمن، ولكن ثمن الكلمة أهون من ثمن الصمت، فالواقفون على الحياد فى لحظات التغيير الكبرى وتقرير مصائر الشعوب ورسم مستقبلها هم خائنون لأحلام الناس ومدلسون عليهم، والويل كل الويل إن كان الصامتون من المثقفين والنخب التى منحتها الأقدار فرصة التعلم واكتمال الوعى ورشادة الاتجاه، وإذا بهم يتركون المساكين ممن لم تمنحهم الأقدار نفس الفرص يمضون إلى الغرق بينما يلتزمون هم الصمت خوفا من دفع الثمن وإيثارا للسلامة.
•••
لا يقوى الاستبداد إلا بألسنة قد خرست وضمائر قد خربت وقلوب قد ارتجفت. فى دولة الصمت تصبح الكلمة أقوى سلاح يهز جبروت الاستبداد ويشقق جدرانه ويوقظ الناس من أوهام قد تأخذهم للهاوية إذا لم تمتد إليهم يد حانية تحذرهم من سوء المصير ومصارع الاتّباع وكوارث الانقياد.
ما أسهل أن تركن إلى ظل خادع تحسبه يحميك من قيظ الهجير ثم تلفحك ألسنة لهبه وتغدو مثل الظمآن الذى يلوذ بالسراب كى يروى عطشه ثم لا يجد إلا مزيدا من العطش وخيبة الأمل وانكسار الروح. وهكذا كل من يستظل بشجرة الاستبداد ويتمسك بفروعها معتقدا أنها تقيه من وهج المستقبل وتحديات الحاضر فإذا به يجدها أغصانا يابسة تتكسر بين أصابعه وتفلت يداه ليرتطم بالقاع خاسرا حلمه ومضيعا أمله.
هل تخاف على الوطن؟ ممن تخاف؟ هل تخاف على الوطن ممن يدافعون عن حقوق الإنسان أم تخاف عليه ممن ينتهكونها؟ هل تخاف على الوطن ممن يحملون كتبا وأفكارا ومعرفة أم تخاف عليه ممن يقدسون الجهل ويباركون الرجعية ويعبدون الخرافة؟ هل تخاف على الوطن ممن يقولون الحق وإن أغضب الناس أم تخاف عليه ممن يحترفون الكذب والإفك والزور والسجود لكل صاحب نفوذ وسلطان؟ هل تخاف على الوطن ممن يحلمون له أحلاما ويسعون لتحقيقها أم تخاف عليه ممن يقتلون الأحلام ويطاردون المستقبل؟ هل تخاف على الوطن ممن وضعوا أرواحهم على أيديهم فداء للحرية وطلبا للكرامة أم تخاف عليه من أباطرة الفساد وأساطين العصور البائدة الذين يصرون على إعادة إنتاج الماضى وتجميل القبح واسترجاع التشوه؟
يحاولون تغيير بوصلتك ويصنعون لك فزاعات لا تستند إلى منطق، يغرقونك فى التفاهات والمعارك الجانبية حتى تبتعد عن ساحة المعركة الحقيقية وتغمرك الأحداث وتجعلك ردة فعل لكل أمر يدبروه، ولكن كيف تنسى أن هذا نهجهم وبضاعتهم؟ وكيف ترتضى أن تدخل تلك المتاهات وأنت تعلم أنها شرك منصوب لك بعناية حتى تتبع خطوهم وتقتفى أثرهم لتصبح كدمية يحركها هؤلاء ولو من وراء ستار؟
من الذين هم أولى بالخوف؟ الذين يسعون لجعل الضياء ينشر شعاعه لينير الظلام أم الذين يمنعون الضياء ويريدون أن يبقى الوطن فى دائرة العتمة؟ إن اجترار المرارات واستدعاء الآلام والوقوف عند لحظات الإخفاق هو قتل للذات وحرب على المستقبل فكيف يمضى للمستقبل من أثقله الألم وكبل قدميه بدلا من أن يجعله مصدر قوة وإلهام تحدٍ وعزم على تغيير الواقع.
إذا لم تكن على يقين أنه لن يصح إلا الصحيح فلن ترى الأحلام تتحقق لأن الأحلام لا تصبح واقعا إذا فقد صاحبها اليقين، مشقة الطريق اختبار للصادقين وتمييز لهم عن المدعين، فليس كل الناس يستطيعون صبرا، أما أصحاب الرسالة فلا يضعف يقينهم ولا تهتز قلوبهم ولا تفتر عزائمهم بل يحولون كل ألم إلى طاقة بذل يكملون بها السير فى الدرب الذى اختاروه ولا يحيدون عنه، ربما يموتون قبل أن يتحقق لهم ما حلموا به وناضلوا من أجله ولكنهم يرحلون وهم يزرعون تلك الفسيلة التى يعرفون أنهم لن يقطفوا ثمرها ولكن أجيال أخرى قادمة ستجنى ما غرسوه وتحصد ما زرعوه وستتذكر أن هناك من مهد لهم الطريق ورسم لهم ملامحه.
•••
إذا انهزم الحلم بداخلك فقد انتهيت، لا تخف من شىء سوى اليأس وفقد الأمل. لا تنشغل بغير مكانك وما تفعله وسط الدوامة لتتجنب الغرق ولتمد يد العون لغرقى يوشكون على الهلاك ويحتاجون ليد تنتشلهم من تدافع الأمواج وتلاطمها ليصلوا لبر الامان وميناء سلام يجدون فيه أنفسهم ويتسقون مع ذواتهم.
قد لا يفتح الباب المغلق إلا آخر مفتاح لديك ولكن لن تصل إليه قبل أن تنتهى من تجربة المفاتيح الأخرى، أكمل الحلم وتمسك بالأمل فالناس تستحق.