الواعظ المحتال! - بلال فضل - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 8:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الواعظ المحتال!

نشر فى : الثلاثاء 15 يناير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 15 يناير 2013 - 8:00 ص

كان الكل مندهشا من صعوده السياسي الصاروخي، لكن لم يكن أحد يتصور أنه سيكون قادرا على الإطاحة بأكبر مسئولي الشرطة، لكنه فعل لأنه كان يدرك أن دخوله تلك المعركة مع جهاز الشرطة مسألة حياة أو موت، فقد كان يخفي بداخله جرحا عميقا من المهانة التي تعرض لها عندما دخل في مواجهة مع ضابط شرطة فقام بالبصق على الأرض لكي يستفز الضابط، فرفسه الضابط ليتدحرج على السلم، وعلى عكس ما توقع الجميع صمت ولم ينبس ببنت شفة عن الحادثة، لأنه قرر بداخله أن تكون مواجهته مع رؤساء الضابط لكي يصبح نموذجا مرهوبا لا يتمكن أحد من المساس به ولا تقديمه إلى العدالة.

 

كانت أكاذيبه واضحة للعيان، ومع ذلك وجد على الدوام من يتبعه ويصدقه ويضحي بحياته من أجله، عندما فحصته مستشفى متخصصة في الأمراض العقلية توصل تقريرها إلى أنه كان يعاني من حالة غير مسبوقة من الشذوذ النفسي، وأن ما يجعل الناس يصدقونه «وجود موهبة إستثنائية لديه تجعل إنعكاس تأثير الشمس والظل على حدقتي عينيه خاصا جدا، وهو ما يمنحه قوة تأثير فطرية على أتباعه ومريديه»، زاد الطين بلة ما شاع بين البسطاء عن كونه صاحب كرامات قادرة على شفاء بعض الحالات الحرجة التي حار فيها الطب، كانت الحادثة الأبرز التي صنعت أسطورته هذه ما تناقله الناس عن تقدم سيدة مصابة بالروماتزم الحاد إليه لتشكو من مرضها المزمن، فوضع يديه عليها ونظر في عينيها نظرة حادة وتفوه بكلام لم يسمعه الناس، وبعدها أعلنت السيدة أنها برئت من علتها، فكان تأثير ذلك هائلا على الملايين خاصة مع تفشي الجهل المريع في البلاد. أخذ أصحاب العقول يضربون أخماسا في أسداس وهم يتابعون صعوده الصاروخي وقدرة الناس على التسامح مع أكاذيبه الواضحة للعيان. لاحظ مراقبوه أنه كان يتعمد دائما أن يميل رأسه إلى الخلف وهو يتحدث ويحدق ببصره الحاد النافذ فيمن أمامه، كأنه كان على يقين أن نظرته ستؤثر في الجميع، وهو ماحدث بالفعل، فقد تمكن من الحصول على ثروة هائلة بفضل طرقه في الإستيلاء على عقول البسطاء في كل مكان.

 

عندما تعاظم نفوذه بدأ في الصدام مع بعض كبارات الدولة الذين لم يرضوا عن طموحه السياسي المتعاظم خاصة أنهم كانوا يعرفون الكثير من أسراره، وهنا أدرك أنه لا بد له من التحكم في وزارة الداخلية لكي يواجه هؤلاء، وبالفعل إستطاع بفضل علاقاته الأسرية الوثيقة بالحاكم أن يطيح بخصومه في البوليس، وبعد أن فاز في تلك المواجهة قرر أن يتوسع في نشر نفوذه في سائر البلاد، كان الجميع يتعجبون كيف كان يفلت من كل المكائد التي كانت تنصب له، ولم يعلموا أنه كان يمتلك عملاء في أجهزة الدولة تطلعه على ما يحاك له. كان مع تظاهره بالغيرة الوطنية الشديدة يعمل على تقويض أركان الدولة بدهاء، فقد كان بداخله يعلم أن زلة واحدة منه إما أن تقضي عليه بالسقوط من حالق فيدخل في حيز النسيان وإما أن تسوقه إلى غيابة السجن، ولذلك سعى إلى إستخدام شعبيته لإقصاء أعدائه من المناصب العليا ليضع مكانهم أصدقاء له، ، ونجح في أن يوصل إلى منصب رئيس الوزراء رجلا قليل الخبرة كان من أشد الناس تعلقا به، ودل ذلك النجاح على مقدار تسلطه على الحاكم الذي صار قطعة من العجين في يده يشكلها كيفما شاء، وماجعله ينجح في ذلك هو أن تفكير الحاكم كان محدودا للغاية، وهو ما جعل صاحبنا يرى نفسه ذو سلطة تضارع سلطة الحاكم نفسه، كان يقول لأصدقائه أنه صار ملكا متوجا على البلاد بدون أن يكون على رأسه تاج، خاصة أنه بعد أن فرض نفوذه على وزارة الداخلية لم يبق رجل واحد في البلاد لا يخشى سطوته، وبعد أن زاد نفوذه السياسي لم يعد يحدث الناس أصلا عن الدين، بل تشاغل فقط بالشئون السياسية الكبرى، لكنه كان حريصا من حين لآخر على الحفاظ على مركزه الديني في نفوس السذج الذين يصدقونه، وكان كلما تم  تضييق الخناق عليه ويظهر إقتراب فضحه يقوم بإحداث فضيحة كبرى يشغل بها الجمهور.

 

لا أدري لماذا إنتابني الآن الشعور أنك يمكن أن تفهمني خطئا، لذلك سأضطر لإيقاف حكايتي لأقول أنني أحدثك منذ البداية عن رجل الدين الواعظ المحتال جريجوري راسبوتين أشهر الشخصيات التي عرفتها روسيا قبل قيام ثورة 1917، وأن كل ما قرأته سابقا كان سطورا إقتطعتها من كتاب الكاتب الإنجليزي ويليام ليكيه (الراهب المحتال)، والذي روى فيه كيف كان راسبوتين العامل الأهم في إضرام نيران الفتن والإضطرابات في روسيا، ومع ذلك لم يصدق الإمبراطور الروسي كل ماكان يقال له عن خطورة راسبوتين عليه وعلى البلاد بأسرها، حتى حلت نهاية الإمبراطور وأسرته بعد عشر أسابيع من مقتل راسبوتين عندما أطاحت به الثورة الروسية. أتمنى أن يكون في إعادة تأمل شخصية راسبوتين المثيرة فرصة لكي نذكر أنفسنا بأنه عندما يرفض البشر الإحتكام إلى عقولهم ويجرون وراء المتاجرين بالشعارات الدينية عمال على بطال، يصل المجتمع إلى طريق مسدود يؤدي به إلى الإنفجار، وربما يحدث له ما حدث للمجتمع الروسي الذي إنتقل من الإكتواء بنار سلطة إستبدادية تستخدم الدين لمصلحتها إلى نار سلطة إستبدادية غاشمة تقف ضد الدين ثم إلى نار سلطة إستبدادية مقنعة تعمل على إستغلال الدين لمصلحتها، ليدفع المجتمع ثمن كل ذلك غاليا فتتدهور أحواله مع أنه يمتلك أعظم العقول في الآداب والفنون والعلوم، أفلا تعتبروووون؟.