غالبا عندما يدور الحديث عن الثورة، يتجه الجميع لشعارات وهتافات الميدان «عيش حرية عدالة اجتماعية» ثم يبدأون البحث عما تحقق من هذه المطالب التى رفعها الشعب، وبالطبع لا يمكن أن نعترض على ذلك لأنها بالفعل كانت الشعارات والمطالب الواضحة التى لا تقبل أى لبس، والبعض يعتبر أن هذا هو المقياس الوحيد الذى تستطيع به أن نعرف إلى أين وصل قطار الثورة، وربما هذا ما نعترض عليه، ونعتبره ظلما للثورة المصرية، التى حركت الكثير وحققت أكثر ما كنا نتوقع قبل عامين.
فما يجب أن نلتفت إليه، مما فعلته وحققته هذا الثورة هى عودة الحياة والحيوية لهذا الشعب، الذى كان فى شبه حالة موات، فى معظم قطاعاته وفى غالبية فئاته، ومن يرجع إلى ما قبل ٢٥ يناير ٢٠١١، سيكتشف بسهولة كيف كانت حالة هذا الشعب تجاه معظم قضاياه الأساسية ومشكلاته التى كان يعانى منها، فالثورة أحيت أشياء كثيرة كانت قد ماتت، أو هكذا رصدها من كانوا يتابعون المجال العام فى مصر، حتى إن الموالين للنظام السابق، كانوا يشيرون بوضوح إلى موات السياسة وموت الرأى العام صراحة من دون أدنى خجل بأنهم جزء أصيل من عملية قتل هذا المجال العام ووأده جهارا نهارا وبانتظام يحسدون عليه.
أى متابع منصف لما يدور الآن فى المجتمع سيكتشف أن الثورة حققت الكثير دون أن يلتفت إليه الساسة المشغولون بصراعاتهم التقليدية بحثا عن السلطة والنفوذ، ولا يفعلون سوى استعمال الثورة ومطالبها فى تزيين خطاباتهم السياسية ومزايداتهم على بعضهم البعض، ولم تفكر أى قوى فى مساندة أو مساعدة جماعات من الشعب بدأت تستيقظ وتنتبه لمصالحها وتنشغل بالمصالح العام للبلاد، ويكفى أن أشير إلى هبات قوية فى مجالات متعددة لم نسمع عنها شيئا قبل ثورة يناير (الأطباء، البيطريون، الممرضون، المبرمجون، حماة المستهلك والأئمة والدعاة) وما يطمئن أن هذه الهبات لا تهدف إلى مصالح شخصية أو مكاسب خاصة، بل إنها ترغب أول ما ترغب فى الإصلاح العام، كما أنها تكشف اعتزازها بنفسها وتأصيل هويتها ثم رغبتها فى تصحيح صورتها أمام الرأى العام، وكل ذلك يساهم فى ضبط وتنشيط المجال العام الذى بدت صورته فى الوضوح والكشف عن قوة هذا الوطن بما يملكه من مدخلات بشرية لم نكن نتصورها قبل عامين فقط.
وفى مقابل ذلك، انطلقت جماعات شابة واضحة الأهداف، تفعل معجزات فى قرى وريف لم يسأل عنه أحد من قبل، وهم متفوقون على السياسيين فى كل شىء، وقد تابعت بنفسى رغبات محمومة فى تغيير الواقع السيئ الذى تعيشه هذه المناطق والقرى البعيدة عن المركز فى القاهرة، شاهدت ذلك فى الفيوم وسوهاج وأسيوط والمحلة ودمياط وبنها والسويس والإسماعيلية وبور سعيد، وقد تحاورت مع هؤلاء الشباب طويلا، ومازلت أتابعهم، لكن ما يحزن بالفعل، أن الدولة لا تلتفت اليهم ولا ترغب فى مساعدتهم، لأن القوى المسيطرة على أدوات الحكومة لا تفكر إلا فى مساعدة من تريد صوته فى الانتخابات، وربما هذا ما تفعله قوى المعارضة أيضا، ومع ذلك مازال هؤلاء الشباب يعملون من أجل تغيير واقعهم الأليم بأدواتهم البسيطة وإمكانياتهم المعدومة، وقد نجحوا فى تحقيق الكثير.. وأعتقد أن هذا ما نجحت فيه الثورة بالفعل أنها حركت هذا الجسد الميت وأحيت بعض خلاياه فبدأ بالتحرك فى الاتجاه الصحيح حتى ولو كره السياسيون الذين تسربت الثورة من بين أيديهم بحثا عن مكاسب رخيصة.