منذ التنحى وهناك هوس بما يسمى حكومة «التكنوقراط». كلما لاحت بوادر أزمة سياسية كان هذا أحد المطالب الرئيسية للقوى السياسية المختلفة، ثم عاد هذا المطلب ليطل برأسه مع انتخاب الرئيس محمد مرسى. والحقيقة أن هذا المطلب يعكس تصور مغلوط ليس فقط عن ماهية القيادة التنفيذية ولكن وهذا هو الأهم عن جوهر الاقتصاد وعلاقته بالسياسة. فالتكنوقراط تبعا لهذا التصور لا تحكمه أبعاد سياسية ولا يمثل أو تمثل تيارا أو أيديولوجية بعينها، لكنه «خبير» فى تخصصه الدقيق وفى هذه الحالة نحن نتحدث عن التخصص فى الاقتصاد أو المالية والسياسات النقدية بالشكل خاص. وعلى هذا الأساس فالتكنوقراط أو الخبير سوف يضع وينفذ السياسات الاقتصادية والمالية «الصحيحة» والتى من شأنها إنعاش حالة الاقتصاد والتعامل مع الأزمات المعيشية للمواطن.
●●●
مكمن المشكلة هنا فى شقين: الأول أنه لا يوجد سياسات اقتصادية صحيحة وأخرى خاطئة فى المطلق. ولكن نفس السياسة من الممكن أن يكون لها مردود مختلف تبعا لعوامل الزمان والمكان والإطار الذى تنفذ فيه. فزيادة سعر الفائدة مثلا من الممكن أن يزيد الادخار، ويمنع التضخم حد ما ولكن فى وقت آخر وفى ظل ظروف مختلفة لا تكون له نفس النتيجة. وعلى الرغم من أن الأقتصاد علم وله قواعد أساسية متفق عليها، فإنه بعكس العلوم الطبيعية هو تخصص الاختلاف فيه أكثر من الاتفاق لأن ما يحكمه ليست قوانين طبيعية، لكن تطور المجتمعات البشرية. وليست مصادفة أن تغيرت وتعددت السياسات الاقتصادية حتى تحت مظلة الرأسمالية ولم تعلُ نبرة الحديث عما يسمى اقتصادا «صحيحا» إلا مع انتهاء الحرب الباردة وهيمنة نظام القطب الواحد (أمريكا) بمؤسساته الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولى. إذا فما سمى بالاقتصاد الصحيح، وهو بالتحديد نموذج الليبرالية الجديدة من خصخصة وتحرير سعر الصرف، وما إلى ذلك هو نتاج ظرف اقتصادى ولحظة سياسية فى نفس الوقت، وليس كما يحلو للبعض أن يصور لنا وكأنه النتاج الأخير للتجربة العلمية والبشرية.
من هنا يأتى الشق الثانى فى مشكلة التكنوقراط؛ فبما أن هناك سياسات اقتصادية صحيحة فى المطلق هناك بالتالى خبراء تكنوقراط درسوا هذه السياسات وقادرين على تطبيقها. هؤلاء المتخصصين ليسوا، كما يصور لنا متجردين من الانحيازات والأهواء السياسية، حتى وإن كانوا غير مسيسين بمعنى الانتماء الحزبى أو الأرتباط بجماعة سياسية. بل على العكس هم ذوو انحياز واضح. فتاريخيا ظهرت فكرة التكنوقراط فى المواقع التنفيذية مع هيمنة نموذج الليبرالية الجديد فى الثمانينيات من القرن الماضى. وارتبطت بخريجى جامعة شيكاجو أو ما سمى «بأولاد مدرسة شيكاجو»، وهى المدرسة التى التى دفعت بالاقتصاد النيو كلاسيكى بتركيزه الشديد على المعادلات الحسابية وفكرة كفاءة السوق فى مقابل تدخل الدولة أو المجتمع لضبط هذه الآلية (السوق). وفى مصر ظهرت فكرة التكنوقراط بشدة مع ظهور جمال مبارك ولجنة السياسات التى ما كانت غير تجميعة لهؤلاء التكنوقراط أو الخبراء ممن جنحوا لسياسات الخصخصة وتحرير الأسعار ومحاولة تقليص دور الدولة فى الاقتصاد. وعلى هذ،ا فتصور أن «حكومة التكنوقراط» هى بالضرورة الحكومة الأنجح أو الأكثر تجردا فى اختيار السياسات الاقتصادية والاجتماعية هو تصور مضلل فى أحسن الأحوال، خاصة لو اتفقنا على أن الهدف الرئيسى لهذه الحكومة هو تحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق إنعاش الاقتصاد وليس فقط تحقيق معدلات نمو تصب فى مصلحة الأقلية، كما كان الحال.
فكرة التكنوقراط فى المواقع التنفيذية مرتبطة بنسق فى الاقتصاد يعطى الأولوية لمعدلات النمو وليس للتوزيع العادل للثروة ويهتم بالمؤشرات الكلية للاقتصاد دون النظر إلى تأثيرها على حياة البشر. فى حين أن الاقتصاد كما السياسة هما انحياز، وهناك أدوات علمية بالتأكيد لتطبيق هذا الانحياز ولكن فى نهاية المطاف يبقى عامل الاختيار والتوجه هو العمل الحاسم فى تحديد السياسات. فالإنفاق العام على الصحة والتعليم فى مقابل خصخصتهم ليس قانون كونى ولكنه اختيار سياسى اقتصادى مبنى على رؤية للأولويات. ما تحتاجه مصر الآن هو بالتأكيد متخصصين لكن متخصصين ذوو انحياز سياسى يعبر عن مطالب الثورة وقادر على ترجمتها فى شكل عملى إلى سياسات، وعلى هذا فالتوجه السياسى الواضح لمن يتولى المناصب التنفيذية سيكون المحدد الرئيسى وليس فقط الشهادات العلمية أو الخبرة التنفيذية.
●●●
فنتعلم من السقوط المدوى لنظام مبارك أن إدارة بلد ومجتمع تختلف عن إدارة شركة أو مؤسسة والفرق هنا ليس فرقا كميا فى الحجم، لكنه فرق نوعى فى المستهدفات والأولويات فالمحرك لا يكون الربح أو الكفاءة الاقتصادية فقط، لكن تلبية حاجات المجتمع بالأساس.