سيدة كبيرة السن تذكر أيام «الأورنوس»، أيام الانجليز؛ فهذا المجتمع الصغير تعود جذوره فى هذا المكان إلى أوائل القرن العشرين، حيث أتى «الكفراوى» بالأجداد من الصعيد ليعملوا فى مصانعه. وطَّن الكفراوى عمالته الوافدة فى أرضه فى «رملة بولاق»، فبنوا بيوتهم، وعمروها، وكانوا يدفعون له إيجارا رمزيا.
أمس الأول، فى رملة بولاق، التقيت أحفاد وأولاد أحفاد هؤلاء الوافدين ــ ففى المنطقة الآن أربعة أجيال ــ واستمعت إليهم واستوعبت همهم وغضبهم. هذا الصوت، هذه النغمة، لطالما سمعتها فى فلسطين، والآن أسمعها فى مصر: أصحاب بلد يُغَرَّبون فى بلادهم لأن مكانهم مطلوب.،أرى بيوتهم. بيوت بسيطة من طوب وخشب. بعضها معتنى به، وبعضها غلبان جدا، وبعضها أبوابه محطمة، وبعضها خرائب. الخرائب هى البيوت المباعة. يقول الأهالى إن من باع بيته كان ملزما أن يهدمه بيده قبل أن يقبض الثمن. سوى الأهالى بعض الردائم، وزرعوها. فى مثل هذه الظروف، فى هذه المرحلة من التغريب، تجد الناس تعيش حالتين متناقضتين فى نفس الوقت؛ يصرون على الأعراف والبروتوكولات العادية: «ينفع كده؟ يرضى مين ده؟ يشترى البيت ويهده ويسيبه خرابة كده. يعنى بدل ما أخرج من بيتى أشوف جارى، بقيت أفتح ألاقى خرابة؟» فيردمون ويزرعون، لكنهم يعترفون أيضا بالظرف الاستثنائى: «ده كله تطفيش. عشان نزهق ونسيبله المكان » وتحت وطأة الإحساس بعدم الاستقرار وعدم الأمان يتركون الردم والخرائب كما هى.
«يشترى» و«يهد» و«نسيبله» ــ ضمير الغائب هنا يصف المهندس نجيب ساويرس، صاحب أبراج ساويرس. لكن الأهالى يقولون إنه، بالأمانة، صاحب فضل، وأنه كان يُجرى مالا ــ راتبا شهريا ــ على الأرامل والمحتاجين. وهم ينقسمون حول مسئوليته عما يحدث لهم. البعض يقول إن هناك من رجاله من له مصلحة فى ألا تُحَل المشاكل. وهم يذكرون سبعة رجال ــ «السبعة العظماء»، أسماؤهم ــ وليس بالخير ــ على لسان الكل فى رملة بولاق. والبعض يقول إنه مسئول لأن عليه أن يعرف ما يحدث باسمه، ولأنه ــ بناء على ما سمعه من رجاله، دخل فى عناد مع أهل المنطقة، بل وأوقف ما كان يجريه على الأرامل.
والموضوع كله يدور بالطبع حول رغبة النايل سيتى فى التوسع والامتداد، على أرض رملة بولاق، وبالتالى ضرورة أن تتخلص من الناس الساكنين لهذه الأرض. فى المجتمعات غير الرأسمالية لا يحق مثل هذا التخلص إلا للدولة، فتتفاوض وتشترى وتعوض باسم المنفعة العامة. فى المجتمعات الرأسمالية يدخل الرأسمالى صاحب المشروع فى تفاوض وشراء وتعويض تحكمه من ناحية التشريعات، ومن ناحية أحوال السوق وظروف السكان. فى المجتمعات صاحبة الفساد والتى تصبو إلى الرأسمالية تتحالف الدولة مع أصحاب رأس المال لتتخلص من السكان بأقل تكلفة.
أمس الأول رأيت فى رملة بولاق أبواب البيوت التى كسرها الأمن بالبيادات وكعوب البنادق، رأيت التليفزيونات وأجهزة الكمبيوتر التى حطموها، والكراسى والكنب الذى كسروه والملابس التى مزقوها، واستمعت إلى سيدات غاضبات، معترضات على انتهاك حرمة البيوت، على احتجاز الرجال، على البذاءة التى عاملهم بها الأمن. «نقول له دقيقة، دقيقة بس نتستر، احنا نايمين فى بيوتنا بالقمصان م الحر، يكسر الباب ويخش ويجر البنت ويقول لها اطلعى يا مـ.. يا متـ…ة يا و..ة وهى بنت بنوت، والتانية تقول له نازل علىّ دم يقول لها أنا اللى ها…ك، وداخلين علينا بالبتاع اللى على وشهم مش شايفين غير عنيهم، والراجل ــ جوزى أهه، ده شكله إرهابى؟ فضل يضربه على دماغه والراجل يجيب من بطنه. ليه؟ ليه كل ده؟»
هو سؤال استنكارى، لأن هذه السيدة تعلم جيدا أن «كل ده» لأنه يقال إن قيمة متر الأرض اللى جدك بنى عليها البيت اللى انت ساكنة فيه تصل إلى نحو ٥٠ ألف جنيه وأنت المطلوب أن تبيعيه بـ ٣٠٠. والمطلوب أن ترضى بسكن بديل فى مكان ما من الصحراء بعيدا عن مدينتك وعن موارد الرزق.
قبل الأبراج ــ مكان الأبراج ــ كانت هنا ورش ومصانع، كان فيه مصنع بلاط، مثلا، وكان فيه محلج قطن. بيعت كلها، وهدمت، وجاءت الأبراج. قطعت أرزاق ولكن الناس قالوا أرزاق جديدة جاءت وإن اختلف العمل، فالورش والمصانع تطلب صنايعية وأسطوات، والأبراج تطلب عمال نظافة وأمن ــ لكنه على أى حال عمل ورزق.
يقولون إن الزن على بيع البيوت بدأ مع وزارة عاطف عبيد. وعلى مر السنين باع البعض ــ كما رأينا ــ وهدم بيته بيده. والبعض لم يبع، إما لأنه لا يتصور وبأى ثمن أن يترك المكان، وإما طلبا لثمن منصف. ثم قامت الثورة وتوقفت الضغوط وشم الناس نفسهم وانتظروا حلا عادلا للموقف.
أكثر ما يؤلمهم أن يوصفوا بالـ«بلطجية». كيف يكونون بلطجية وهم الذين خرجوا بالعصى والشوم ــ الستات قبل الرجالة ــ ليحرسوا الأبراج حين سمعوا بأن مول أركاديا ينهب ويحرق؟ خرجوا ليحرسوا الأبراج، ليس لأن أحدا طلب منهم ذلك، وإنما لأن الأبراج هى مصدر الرزق الباقى لهم. قالوا إن انهارت الأبراج انهارت حياتنا فخرجوا ليؤمنوها.
راقبهم المسئولون فى الأبراج وبدأوا يسألون الشباب «انت مابتشتغلش؟ طب تعال». ذهب الشباب وعمل معهم. حين انسحبت الداخلية والمنظومة الأمنية بكاملها من شوارع القاهرة، أصبح شباب المنطقة هم من يؤمنون الأبراج. ثم بدأت الممارسات التى هى من صميم مثل هذا الموقف: مش كل الناس بتاخد زى بعض. فيه ناس بتاخد من شركة واحدة (النايل سيتى مثلا) وناس بتاخد من شركتين (النايل سيتى والفيرمونت مثلا) وناس بتاخد من ٣ شركات (النايل سيتى والفيرمونت وجروب 4 مثلا). فيه شباب «رشوا عليها جامد وراحت اشترت سلاح» ــ بما إنهم شغالين سيكيوريتى. بدأت الفرقة تدب بين الجيران: شباب مسلح مقرب من أمن البرج، وشباب يعمل مع الأمن فى حدود الوظيفة، وشباب خارج اللعبة.
ومع انحسار الحالة الثورية فى الشارع، ومع عودة قوات الأمن إليه، عادت ضغوط البيع. وفى ٢٧ يونيو من هذا العام شب حريق هائل فى الرملة تفحمت فيه بيوت ومات فيه الطفل محمد عبدالنبى صلاح، واتهم الناس مدير أمن النايل سيتى بتحريض أحدهم على إلقاء اسطوانة بوتاجاز وإشعال الحريق، وقالوا إن النايل سيتى رفض إمدادهم بخرطوم مياه لإطفاء الحريق.
وفى أربعين محمد عبدالنبى صلاح ذهب رجل من المنطقة، اسمه عمرو البنى، إلى الأبراج، وخلال دقائق كان قد قُتِل على يد ضابط شرطة. يقولون إنه ذهب ليطالب بمستحقات متأخرة لبعض الشباب الذين ألحقهم هو بالعمل على تأمين الفندق. يقولون إن الأمن طلب منه ألا يركن «الماكينة» أمام الأبراج فرفض. يقولون إنه كان «جدع». الأكيد أنه كان أحد «فتوات» أو قادة المنطقة، وأنه ذهب إلى الأبراج يبحث عن حق متفق عليه فقتل، وأن جسده كان به رصاصتان، وأنه لم يكن معه سوى «سلاح أبيض»، وأنه وصف فى كل الإعلام بالـ«بلطجى»، وأن الوصف امتد ليشمل الكثير من شباب المنطقة، وأن الرجل الذى حمله إلى سيارة الإسعاف أصيب ــ هو وابنه ــ بطلقات رصاص فى الساق، وأن أكثر من ٢٠ شابا من المنطقة محجوزين الآن «على ذمة التحقيق»، وأن من تستطع من النساء هرَّبت أبناءها وأخواتها، وأن المنطقة تعيش فى رعب من الاقتحام الأمنى القادم.
يحكى أهل المنطقة أنه من نحو ٥ سنوات، كانت الأبراج تريد التوسع ٦ أمتار شرقا، وكانت هناك دكانة تقف فى الطريق. رفضت صاحبة الدكانة، وهى شابة صغيرة اسمها نسمة سيد رمضان، أن تبيع بالثمن المعروض عليها، ووكلت محاميا فى السبتية. وفى يوم من الأيام، وهى طالعة من عند المحامى، ضربتها سيارة ــ ملاكى ــ قتلتها فى الحال. طارد الأهالى السيارة إلى عشش الترجمان وأمسكوا بسائقها فاتضح أنه ضابط أمن، وجاءت الحكومة وأخذته، وهكذا انتهت حكاية نسمة سيد رمضان.
يقولون لنا ان الرأسمالية ليست شرا، وأنها نظام اقتصادى له محاسن ومساوئ كأى نظام آخر. يُفهموننا ــ بنوع من الإشفاق على محدودية نظرتنا ــ أن انتعاش وثراء الرأسمالية الكبيرة له أثر يقطر، أو ينساب، أو يتناثر على المستويات التى تحته فينعشها هى أيضا. لكن هذه الدراما التى تتفتح الآن على الضفة الشرقية لنيل القاهرة تكشف عن حقيقة لا مواربة فيها: هذا الخير المنساب من فوق لتحت ينساب بإذن منبعه دائما، وينساب ليفرض رؤية هذا المنبع والشروط الذى يفرضها على حياة واختيارات الآخرين. هذا الـ«خير» خير مكبِّل ثقيل الوطأة.
•••
بعض التساؤلات:
(١) من صاحب الحق فى تحديد ماذا يحدث عمرانيا على ضفاف النيل فى القاهرة؟ من الذى يخطط للعاصمة؟ وما هى آليات اتخاذ القرار؟ فى حدود علمى ان ما يحدث فى رملة بولاق هو جزء من المخطط «القاهرة ٢٠٥٠»، وهذا المخطط كان ربيب علاء وجمال مبارك ــ ويقول أهل المنطقة إن علاء مبارك نزل بنفسه يتفقد المكان. فبأى حق وبأى منطق يستمر تنفيذ هذا المخطط الآن؟
(٢) وحتى إذا افترضنا أن هذا المخطط لا بد من الاستمرار فيه، وأن «السوق» هو السيد والمتحكم، فلماذا لا يتم التعامل وفقا لآليات السوق المتعارف عليها، فيتم التفاوض مع أهل المنطقة ليبيعوا بيوتهم بالسعر الذى يحدده السوق فعلا؟
(٣) لماذا تلعب الدولة دور الطرف فى هذه المشكلة، فتناصر فريقا على فريق ــ تناصر أصحاب المال على أصحاب الحق؟ نعرف لماذا لعبت الدولة هذا الدور فى أيام المخلوع، فرفضت أن تمد المنطقة بالمياه وبالصرف الصحى بالرغم من وجود البنية التحتية اللازمة على بعد عشرة أمتار من حدودها، لماذا تستمر فى هذا اليوم، فى ظل حكومة الدكتور مرسى، فترسل قوات الأمن لتروع الناس، وتهينهم، وتحطم ممتلكاتهم القليلة، وتحتجز العشرات من شبابهم؟
(٤) شركة الخدمات الأمنية «جروب 4» فالجدير بالذكر أن الشركة الأم، G4S، هى الشركة التى تسببت فى فضيحة كبرى فى بريطانيا حيث لم تستطع تنفيذ عقدها المتفق عليه فى تأمين الأولمبياد فاضطرت الحكومة البريطانية للاستعانة بالجيش ليقوم بالمهمة، وهى الشركة المتورطة فى مقتل جيمى موبنجا، مهاجر غير شرعى، أثناء ترحيله من البلاد فى أكتوبر ٢٠١٠، وهى الشركة التى تقوم بعمليات تأمينية واسعة فى الأراضى الفلسطينية منها تأمين المستوطنات، وحين قام ناشطون بحملة ضدها فى بريطانيا وضعت إعلانات كبيرة الحجم فى شوارع لندن، تعلن: «بكل فخر نؤمن سياسة الفصل العنصرى الإسرائيلية». هذه هى الشركة التى سمح لها بأن يكون لها تواجد فى مصر، وعهد لها ضمن ما عهد، بحماية فندق الفيرمونت. لماذا؟ وكيف يستمر هذا؟ حكومات وشعوب تقاطع الشركات التى تتعامل ــ فقط تتعامل ــ مع إسرائيل، ومصر، مصر تكلف هذه الشركة بحماية منشآت فى القاهرة؟
(٥) المهندس نجيب ساويرس من فاعلى الخير الكبار، وأعتقد أنه كان بشكل ما متعاطفا مع الأهداف الكبرى للثورة، وفندق فيرمونت كان يعطى للاجتماعات ــ سواء وافقنا أن تعقد مثل هذه الاجتماعات فى الفنادق أو لا ــ كان يعطى للاجتماعات الخاصة بمحاولات ضبط مسار الثورة أسعارا وامتيازات خاصة. فكيف يتسق كل هذا مع هذا النسق من التعامل مع أهل المنطقة؟
رجاءً، شاهدوا www.youtube.com/watch?v=3lSCAstp2uk&feature=gــallــu ــ ببعض الإنسانية والأمانة والمهنية ــ هذا الموضوع ما زال قابلا للعلاج.