لم يعد تدنى منظومة التعليم فى مصر محل خلاف. فواقعنا يؤكد أننا أمام مشكلة حقيقية تستوجب التحرك السريع إزاءها إن كنا نريد بهذا البلد خيرا، ولكنه يجب أن يكون تحركا مدروسا تحكمه رؤية مستنيرة تقودنا من حيث الركود إلى التقدم والتطور. وفيما يلى محاولة متواضعة للوقوف على ملامح تلك الرؤية:
أولا أصحاب القرار
أرى أن السر فى النهوض بقطاع التعليم ــ شأنه شأن أى قطاع آخر ــ يكمن فى قياداته. فبواقعية شديدة أرى أن أى حديث عن إحداث ثورة فى التعليم لهو من قبيل اللهو إذا لم تتوافر ثلاثة شروط فى صانعى القرار بشأنه: 1ــ الإرادة السياسية لإحداث تغيير والاستعداد لمواجهة المقاومة المتوقعة، وهى إما مقاومة من المستفيدين من استمرار الوضع على ما هو عليه أو المقاومة الطبيعية التى تنتظر أى محاولة للتغيير بسبب الخوف من المجهول.
2ــ أن يكونوا من أصحاب التخصص. فعلى طريقة «ادى العيش لخبازه» يجب أن يضع سياسات التعليم متخصصون فى مجال التعليم. فعندما تشعر بالألم فإنك لا تذهب لعالم فى الكيمياء أو الهندسة لمجرد أنه متفوق وحائز على أعلى الشهادات، لأنه ببساطة لن يستطيع تخفيف آلامك مهما بلغ من العلم فى مجاله. التعليم هو مجال قائم بذاته له متخصصوه وباحثوه وله نظرياته وفلسفاته التى تتطور بتطور المجتمعات وتغير احتياجاتها. 3 ــ حسن الإدارة. فالإدارة فن وعلم تختلف أبجدياته عن أبجديات التدريس. فعلى مستوى الإدارات التعليمية مثلا يترقى المدرس ليصبح مديرا لمدرسة ثم لإدارة. وقد يتلقى دورة قصيرة عن علم الإدارة دون اختبار حقيقى لمهاراته وقدراته وعلمه. فالترقية للأقدم وليست للأكفأ ولا يحكم توزيع الأدوار معايير واضحة ومفهومة. لذا فليس لنا أن ننتظر الكثير.
وهكذا فإن انتقل صنع القرار من أهل الثقة إلى أهل الخبرة الذين يحكم اختيارهم معايير الكفاءة، ضمنا الخطوة الأولى لإحداث نقلة نوعية فى منظومة التعليم.
ثانيا ــ فلسفة التعليم
إن فلسفة التعليم التى كانت تناسب العالم فى الخمسينيات من القرن الماضى لم تعد تناسبه الآن فى القرن الواحد والعشرين حيث تقدم العلوم والتكنولوجيا وتوافر المعلومات وتعدد الاختصاصات وتفرعها. فالفلسفة التعليمية التى تهدف إلى تحصيل كم معين من المعلومات محددة سلفا فى مناهج جامدة وإطلاق لقب «متعلم» على كل من يبرهن على تحصيل هذه المعلومات لم تعد تناسب العصر ولا تصل بنا إلى الهدف المرجو من التعلم، وهو إنتاج فرد فعال قادر على خدمة نفسه ومجتمعه، لأنها ببساطة فلسفة تتجاهل معطيات الواقع، وهو ما يفسر معاناة أصحاب العمل فى التوصل لكوادر من أصحاب القدرات والمهارات العملية رغم وجود عشرات الآلاف من الخريجين، ذلك أن البطالة فى مجتمعنا لا تنتج عن نقص فرص العمل فقط ــ وإن ظل ذلك سبب رئيسى ــ ولكنها أيضا تنتج عن غياب المهارات والقدرات المطلوبة فى عالم تغيرت طبيعته، بل ومستمرة فى التغير.
نحن فى حاجة إذا إلى فلسفة تعليمية تستجيب لمتطلبات هذا العالم المتغير. فلسفة تبتعد فى جوهرها عن فكرة تحصيل العلم كأسمى أهداف التعليم إلى كيفية الحصول على المعلومة وتقييمها وتطويعها وتطبيقها بل وإنتاجها، مع إتاحة الفرصة للطالب لتحديد مجالات اهتمامه والتعمق فى دراستها بحيث نبتعد عن حصر نجاح الفرد فى مجالات معدودة، وهو الحصر الذى لا يعود بالفائدة لا عليه ولا على المجتمع الذى اكتظ بتخصصات بعينها دون غيرها.
تلك الفلسفة تستوجب تغيير أساليب التقييم بحيث يعكس مجموع الطالب قدراته المختلفة بنسب أهميتها وليس قدرته على الحفظ وسرد المعلومات والتى تأتى فى قاعدة هرم القدرات العقلية.
ثالثا ــ مدرس مؤهل
قد نكتب مجلدات رائعة عن فلسفات التعليم ونظرياته الحديثة. ولكن لنا أن «نبلها ونشرب ميتها» إن لم نستطع توفير المدرس الذى يطبقها على أرض الواقع. فتأهيل المعلم من القضايا المحورية فى النهوض بالتعليم. ففاقد الشىء لا يعطيه. كيف لنا أن ننتظر من مدرس يرى أن دوره يقتصر على تحفيظ المنهج للطلبة وتدريبهم على شكل الامتحان ولا يمتلك مهارات البحث والتفكير النقدى ويرى أن الاختلاف فى الرأى «قلة أدب»... كيف لنا أن ننتظر منه أن يطبق فلسفة تعليمية متنورة تنتج أفرادا قادرين على التعامل مع العالم؟
وعليه فيجب أن يُشترط لتعيين المدرس حصوله على شهادة مؤهلة يدرس من خلالها طرق التدريس الحديثة وتسلحه بحفنة المهارات والقدرات اللازمة لعمله، على أن يقوم على تأهيل المدرسين وتقييمهم مجموعة منتقاة من المتخصصين وألا يتحول الحصول على هذه الشهادة إلى إجراء روتينى لا يضيف كثيرا إلى العملية التعليمية مثلها مثل كثير من «الدورات التدريبية» التى يتلقاها المدرسون والتى لا يتم فى نهايتها إجراء تقييم حقيقى للمتلقين.
ولكى يكون حديثنا عن المعلم حديثا واقعيا، فلا يمكن أن ننتظر من المعلم أن يلتفت إلى النهوض بمستواه المهنى وهو يكافح ليل نهار من أجل قوته. سأظل أدافع عن حق المعلم فى عيشة كريمة، ليس فقط لأن هذا حقه كإنسان ومواطن، ولكن لأن هذا الحق شرط أساسى للنهوض بالتعليم وإحداث تغيير جذرى فى المجتمع. فلا تنتظر تعليما ناجحا بمدرس راتبه الشهرى بضع مئات من الجنيهات.
رابعا ــ حق التعليم
بينما تتحول أنظار العالم من فلسفة تعليمية تتيح المعلومة إلى فلسفة تؤهل الفرد للتعامل مع كم هائل من المعلومات، لازلنا نناضل من أجل الحق فى الوصول إلى المعلومة. فلا يمكن أن نتحدث عن النهوض بالتعليم دون الالتفات إلى كارثة مجتمع لا يستطيع ربعه القراءة والكتابة. ولا مناص للتغلب على الأمية وتفادى مشكلة التسرب من التعليم من استحداث مجموعة من القوانين الملزمة والإجراءات المرغبة التى تضمن وصول حق التعليم لكل مواطن وألا يقتصر هذا الحق على من يستطيع أن يدفع ثمنه فيستمر الفقر والجهل فى المجتمع وتستمر الهوة بين طبقات المجتمع فى الاتساع. فبالثواب والعقاب يمكن إحداث تغيير. وإن توفرت الإرادة السياسية ضَمَنا تطبيق القانون وتفعيله.
خامسا ــ التفاصيل اللوجيستية
وهى تفاصيل تستلزم ميزانية مناسبة وحسن إدارة للموارد. فلا يعقل أن نتوقع عملية تعليمية ناجحة فى فصل به 80 طالبا فتضيع فرصة الحوار وعرض الآراء. ناهيك عن عدم وجود أماكن آدمية للجلوس داخل فصول ينصهر فيها الجميع من الحر وتنتشر فيها القمامة فى كل مكان. وقد لا يبدو منطقيا بعد كل هذا أن نتحدث عن أجهزة تعليمية أو معامل أو حتى دورات مياه نظيفة. أضف إلى ذلك مدرسين يدرِّسون فى غير تخصصاتهم وحصص لا تُدَرس لأسباب بيروقراطية وغياب النشاط المدرسى بسبب ميزانيات محدودة.
نحن إذا فى حاجة إلى تطبيق معايير واضحة لكفاءة المعلم والمؤسسات والأبنية والبرامج التعليمية وموارد التعليم وغيرها من أساسيات العملية التعليمية بغرض الارتقاء بمستوى التعليم ووصوله للجميع بنفس الكفاءة.
لقد طال الفساد تعليمنا مثلما طال كل قطاعات الدولة لعقود طويلة حتى أصابها العطب. والأمر يستلزم إرادة حقيقية للتغيير ورؤية مبتكرة شاملة وحسن إدارة. فالأساليب البالية لن تفيد. ولن يبدأ التغيير إلا إذا أوكلنا الأمر لمن هو أهل له وأطلقنا يداه لإنقاذ السفينة من الاستقرار فى قاع المحيط. فالمجتمعات لا تنهض بلا تعليم.