اختار المستشار حسام الغريانى رئيس الجمعية التأسيسية للدستور أثناء إدارته جلسة الاستماع التى عقدتها لجنة المقترحات بالجمعية، وخصصتها لممثلى العمال والفلاحين ــ أن يخلع رداء القاضى النزيه، وأن يرتدى ثوب «المؤرخ البارع» القادر على حسم الجدل التاريخى بشأن أى مرحلة تاريخية «بطَقة حَنَك» كما يقول إخواننا فى الشام. تحدث القاضى الجليل مسترشدا «بالهوى» وليس بميزان العدل والموضوعية فجانبه الصواب. لا يعنى ما سبق أنه لا يحق له أن يعبر عن آرائه الخاصة، لكن جوهر مهنة القضاء أن تكون موضوعيا ولا علاقة لأحكامك بآرائك الشخصية.
●●●
كانت المناسبة كما سبقت الإشارة جلسة استماع عقدتها لجنة المقترحات بالجمعية التأسيسية. خُصصت الجلسة للتعرف على آراء ممثلين للفلاحين والعمال فى مسودة الدستور. صدق هؤلاء الممثلون أنهم بصدد اجتماع يُنصَت فيه لآرائهم، فتحركت ألسنتهم بعدد من الآراء والمطالب، فقال أحدهم إن 77% من الشعب المصرى فلاحون، وبعد إلغاء نسبة الـ50% المخصصة للعمال والفلاحين فى المجالس المنتخبة سيصبح هؤلاء «خارج الوطن»، فى إشارة مريرة إلى أن الفلاحين لن يجدوا منبرا للإعلان عن آرائهم إن ألغيت النسبة، وأضاف ثانٍ إن الجمعية استكثرت النسبة على الفلاح وكأنهم «استكثروا على الغجر ضل الشجر»، ونفذ ثالث إلى جوهر الموضوع فطالب بأن يتم تحديد صفة الفلاح بدقة بعد أن أصبح اللواء فلاحا بشهادة الحيازة الزراعية.
تجاوز المستشار الغريانى دوره «كمدير» لجلسة الاستماع، فرد على ممثلى الفلاحين ناقضا آراءهم، وهو المفروض أن ينقلها للجمعية ولا يدحضها باعتبار أنها قيلت فى جلسة استماع، لكن الأخطر من ذلك أن نهجه فى الرد كان شاملا، فبدأ بإصدار حكم عام على ثورة يوليو صاحبة فكرة تخصيص 50% على الأقل من جميع المجالس المنتخبة للعمال والفلاحين باعتبارهما طبقتين طال أمد تهميشهما فى الحياة السياسية المصرية، ولا تملكان من الإمكانات المادية ما يكفل لهما نجاح مرشحيهما فى أى انتخابات خاصة التشريعية. قال المستشار الغريانى إن مصر قد تعرضت لأكبر عملية «نصب» فى تاريخها منذ 1952 وحتى ثورة 25 يناير، ثم طالب العمال والفلاحين بألا ينخدعوا بنسبة الـ50% لأن أحدا من العمال والفلاحين لم يستفد منها، وأضاف فيما بدا أنه رد على المتحدث الأول الذى قال للغريانى «الـ50% عمال وفلاحين أمانة فى رقبتك»، إنه ليس صاحب قرار فى بقاء النسبة أو إلغائها وإنما سيرفع الأمر للجمعية التأسيسية وهى التى ستقرر ذلك، وختم الغريانى حديثه مُلطفا بكلمات عن اقتناعه التام بحقوق العمال والفلاحين، وبأنهم ركيزة التنمية فى البلاد التى لن تنهض إلا بحل مشاكلهم.
●●●
تأملت فيما قاله المستشار الغريانى، وكان أول ما جال بخاطرى أن حديثه يوحى وكأن ثورة يوليو قد امتدت لما قبل ثورة يناير، وهو خطأ شائع، لأنها انتهت بوفاة زعيمها فى 28 سبتمبر 1970، ولم يكن ما تلاها من عقود سوى انقضاض عليها وتصفيتها، ثم أخذت استعيد ما فعلته الثورة فى هذا النطاق الزمنى المحدد. أيكون طرد الملك الفاسد بعد ثلاثة أيام من الثورة ثم إلغاء النظام الملكى نفسه قبل مرور عام نصبا على الشعب الذى توحد خلف القرارين لإدراكه فساد الملك ونظامه؟ أيكون كسر احتكار القوى الغربية توريد الأسلحة إلى مصر ودول المنطقة وإقامة الجسور مع الاتحاد السوفييتى من أجل بناء جيش قوى يحمى أمن مصر نصبا بدوره؟ أيكون فى الانتصار الحاسم للكرامة المصرية بتأميم شركة قناة السويس ردا على سحب الولايات المتحدة وأذنابها من بعدها عرض تمويل بناء السد العالى نصب على الشعب المصرى؟ أيشمل النصب خصوم عبدالناصر المحترمين وعلى رأسهم الزعيم الوفدى الكبير مصطفى النحاس الذى أشاد بالخطوة، وقال إنه لو كان فى موقعه لفعل نفس ما فعل؟ أيكون فى التلاحم بين شعب مصر وجيشه إبان العدوان الثلاثى والصمود الأسطورى فى وجه العدوان عملية نصب كبيرة تعرض لها الشعب المصرى؟ أتكون ملحمة بناء السد العالى الذى جسد إرادة شعب وغير وجه الحياة على أرض مصر نصبا من الألف إلى الياء؟ أم أن خصوم الثورة على حق وقد ساءهم هذا الإنجاز العملاق فذرفوا الدموع مدرارا على «سردين مصر» الذى اختفى مع بناء السد وجعلها دولة «عديمة السردين» لا تستطيع أن ترفع رأسها بين غيرها من الدول؟
أيكون بناء قاعدة صناعية حقيقية كانت كفيلة إن استمرت وتطورت بأن تحيل مصر إلى دولة صناعية مرموقة نصبا فى نصب أدركه حكام مصر بوفاة زعيم الثورة فصفوا هذه القاعدة فى واحدة من أكبر الجرائم فى تاريخ مصر المعاصر، وباعوها بيد الفساد لمن كان يتربص بالوطن شرا، فأسرع بتصفية ما آل إلى ملكيته وحول المصانع المنتجة بعد إهمالها وهدمها إلى عقارات ومنتجعات فاخرة لأصحاب المليارديرات؟ أتكون العملية الأسطورية لإعادة بناء القوات المسلحة بعد الهزيمة النكراء فى 1967 وحرب الاستنزاف التى مثلت ميدان تدريب مثالى للمقاتل المصرى، وأظهرت قدراته وطاقاته الفذة، فحققت ما حققته من إنجازات استثنائية، وكانت نقطة البداية فى حرب أكتوبر، أتكون نصبا فى نصب؟ وهل ذهبت دماء الآلاف من شهداء مصر العسكريين والمدنيين هدرا وقد جادوا بأرواحهم لكى يصلوا بأنساق الدفاع الجوى المصرى إلى جبهة القناة حتى تكون القوات العابرة لاسترداد الكرامة فى مأمن من الذراع الجوية الطويلة لإسرائيل؟ أيكون دور مصر العربى والأفريقى الذى دعم حركات التحرر العربية والأفريقية وصولا إلى طرد المحتل الأجنبى والحصول على الاستقلال «نصبا دوليا»؟ وكذلك الأمر بالنسبة لحركة عدم الانحياز التى كانت مصر مع الهند ويوغسلافيا على رأسها وجعلت منها قوة حقيقية تصون استقلال العالم الثالث من مخاطر الهيمنة من أى من المعسكرين؟
أما الفلاحون والعمال فقد كانوا أول ضحية لهذه «الثورة النصابة»، فبعد أقل من شهرين أصدرت الثورة قانون الإصلاح الزراعى الذى صفى الملكيات الإقطاعية، ومَلَّك الأرض للمعدمين على النحو الذى مثل نقلة جذرية فى حياتهم، بينما ما زالت ثورة يناير بعد اقترابها من السنتين عمراً تبدو مرتبكة زائغة البصر فى مسألة العدالة الاجتماعية التى كانت مطلبا أساسيا للثوار، ونصبت ثورة يوليو على العمال فأعطتهم حقا فى نسبة من أرباح مصانعهم فضلا عن حق المشاركة فى إدارتها، وتكفلت مجانية التعليم بأن حصل أبناء العمال والفلاحين على فرص حقيقية فى إكمال دراستهم الجامعية والاستفادة من الحراك الاجتماعى الواسع الذى شمل المجتمع بعد كل هذه التغيرات. فيا أيها الفلاحون والعمال ثوبوا إلى رشدكم واسألوا الله أن يعوضكم خيرا عما آلت إليه حالكم بعد أن تعرضتم «لأكبر عملية نصب فى تاريخ مصر» بما يعنى أن أقرانكم فى زمن الانحطاط المملوكى والغزو الفرنسى والاحتلال البريطانى كانوا أسعد حالا منكم آمنين من عمليات النصب التاريخى التى تعرضتم لها فى ظل ثورة 1952.
●●●
لم يكن ما آلمنى فى تصريحات المستشار الغريانى هو فحوى ما قال، فقد تكسرت النصال على النصال، وأصبحت هناك مواسم معروفة للهجوم على الثورة وزعيمها تتردد فيها آراء أكثر قسوة بحقهما مما قاله المستشار الجليل، لكن ما آلمنى حقا أن الهجوم على ثورة يوليو من قبله كان استخفافا لا يليق بمكانته، ولا يتسق مع تكوينه كقاضِ عادل، ناهيك عن أن صاحب الهجوم منوطة به مهمة تاريخية وهى صياغة دستور يعبر عن توافق وطنى، فكيف يتحقق هذا التوافق بربكم فى ظل هذه الآراء العجيبة؟
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومدير معهد البحوث والدراسات العربية