يتخطى ما تشهده العاصمة الأمريكية خلال الأسابيع القليلة الماضية ما دأبت عليه واشنطن لعقود طويلة حال تغير هوية الحزب المسيطر على البيت الأبيض والكونجرس. ولم تتعرض واشنطن على مدار تاريخها السياسى لما تشهده الآن من تغيرات غير مسبوقة. قبل ثمانى سنوات ومع وصول الرئيس الديمقراطى باراك أوباما لسدة الحكم خلفا للرئيس الجمهورى جورج بوش تخيل البعض أن واشنطن اهتزت على وطأة وصول رجل أسود للبيت الأبيض، إلا أن أوباما التزم بما جرى عليه العرف ممثلا للحزب الديمقراطى ونخبته ومؤسساته وتقاليده، من هنا لم تتغير خريطة واشنطن كثيرا أثناء سنوات حكم أوباما الثمانى. ثم جاء الرئيس الجديد دونالد ترامب من خارج مؤسسات السياسة الأمريكية التقليدية، وهو لا يلتزم لا بقيم ولا بمبادئ الحزب الجمهورى من ناحية، كما لم يكن ترامب يوما المرشح المفضل للجمهوريين حزبا، ونخبة ومؤسسات. وسببت موجات الهجوم المتكررة على المرشح ترامب من كبار قادة الحزب الجمهورى خلال الحملة الانتخابية إلى عدم اكتراثه بتقاليد الحزب وأفكاره.
تُـحدث إدارة ترامب تغييرا كبيرا وواسعا فى خريطة واشنطن على عدة مستويات. وساهمت حالة الاستقطاب الكبيرة التى تسيطر على واشنطن فى وقوع أسوء أنواع التغيير، والأسوأ فى خريطة واشنطن الفكرية فى حالة التطبيع الجارية حاليا مع «الخطاب السياسى لدونالد ترامب»، وخروج الكثير من التبريرات لفاشيته ووقاحته من مشرعين منتخبين ومن وسائل إعلام ومراكز بحثية مختلفة. ويساهم فى هذا التوجه استمرار وجود حالة استقطاب سياسى وانقسام مجتمعى حاد خارج واشنطن حول كل القضايا المهمة الداخلية مثل الرعاية الصحية وحقوق المثليين والهجرة والضرائب وحق حمل السلاح، وغيرها كثيرا. وأصبحت واشنطن قبل أقل من مرور شهر على وجود ترامب فى البيت الأبيض أكثر يمينية، واستطاع ترامب أن يحرك واشنطن فى هذا الاتجاه، وعلى سبيل المثال أصبحت محطة فوكس وسطية فى ضوء ظهور ونجاح مواقع إخبارية أكثر يمينية منها، وفى الوقت الذى انتقل معه الوسط ليصبح يسارا، وأصبح اليسار هامشا.
***
تاريخيا دأبت خريطة واشنطن على التشكل معتمدة على انقسام متوازن بين الحزبين الجمهورى والديمقراطى، وتشارك الحزبان وسيطرا على خريطة واشنطن عن طريق مباراة لا يشاركهما فيها أحد، وحال هزيمة حزب ما يُغرف إلى أين يذهب رجاله ونساؤه من أجل الاستعداد لجولة جديدة من المنافسة التقليدية. وفى حالات الانتصار، كان يُعرف على نطاق واسع من أين يأتى الرئيس الجديد بكبار مساعديه ومستشاريه ووزرائه وسفرائه. إلا أن هذه الترتيبات التقليدية تتعرض لهزة كبيرة غير مسبوقة على يد الرئيس الجديد دونالد ترامب. فالوافد الجديد للبيت الأبيض لا يعرف دوائر واشنطن التقليدية، والأهم أنه لا يكترث بها. جاء ترامب حرا من أى ديون لواشنطن ودوائرها التقليدية من هنا نراه يأتى برجال ونساء من خارج السياق الواشنطونى. جاء ترامب بوزراء عسكريين مثل وزير الدفاع جيمس ماتيس، ووزير الأمن الداخلى الجنرال جون كيلى، واختار الجنرال مايكل فلين المستقيل مستشارا للأمن القومى. وجاء ترامب بمليارديرات ممن لا يعرفون واشنطن مثله على غرار وزير الخزانة ووزيرة التعليم ووزير الخارجية. ولم يمانع ترامب فى تعيين أقاربه ومعارفه فى مناصب حيوية مثل زوج ابنته جاريد كوشنر كمستشار بالبيت الأبيض ومشرف على ملف سلام الشرق الأوسط، كذلك صديقه لسنوات طويله ديفيد فريدمان كسفير فى إسرائيل.
فى خريطة واشنطن الجديدة لا يدرك الحزب الديمقراطى موقعه تماما، وذلك بسبب تأثير صدمة هزيمة انتخابات نوفمبر الماضى والذى خسر فيها البيت الأبيض ومجلسا الكونجرس. وحتى الآن لم يظهر شخص موحد للديمقراطيين يمكن أن يمثل قيادة مستقبلية للحزب. وسمح ذلك بوجود فراغ معارض للرئيس ترامب وسياساته المختلفة، واستطاعت بعض وسائل الإعلام وبعض منظمات المجتمع المدنى الأمريكى والقضاء القيام بدور المعارضة الفعالة حتى الآن لكبح جماح الرئيس الجديد المُنتشى بنصره الانتخابى.
***
بعيدا عن تشكيل وأسماء أركان إدارة ترامب، يظهر التغيير الذى تشهده واشنطن من خلال عدة ممارسات رئيسية من أهمها علاقة الإدارة بوسائل الإعلام. وكصحفى أعمل فى واشنطن حضرت العديد من المؤتمرات الصحفية الدورية التقليدية بالبيت الأبيض خلال إدارتى جورج بوش وباراك أوباما. ومؤخرا حضرت المؤتمر الصحفى اليومى للبيت الأبيض، والذى تحدث فيه وأجاب عن الأسئلة المتحدث الرسمى للبيت الأبيض شون سبايسر. وغابت عن المؤتمر المعاملة التفضيلية التى تلقاها فى الماضى مراسلى كبرى الصحف والوكالات الإخبارية وذلك على حساب نظرائهم من وسائل الإعلام الأصغر أو الأجنبية. ودوما كان يتم حجز الصفوف الأولى لهؤلاء المراسلين (يبلغ عدد مقاعد المركز الصحفى 49 مقعدا)، واليوم يمكن لأى صحفى أن يجلس فى أى مقعد متاح. ويقوم المتحدث الرسمى بتلقى أسئلة من مختلف الصحفيين وذلك على العكس مما جرى عليه العرف فى الإدارتين السابقتين من حيث السماح لنجوم الصحافة والإعلام الأمريكى فقط بالسؤال. وحجز مراسلون لمواقع إخبارية داعمة لسياسات ترامب موقعا هاما فى المؤتمرات الصحفية خاصة موقع برايتبرت ونيويورك بوست، إضافة لمحطة فوكس الإخبارية. وبالطبع لا يتوقف الرئيس ترامب عن الهجوم على أهم وسائل الإعلام الأمريكية خاصة صحيفة نيويورك تايمز ومحطة سى إن إن، ويقلل دوما من شأنهما، وهو ما يلقى آذانا صاغية وسط جمهور ناخبيه.
***
إلا أن هذه الخريطة الجديدة تشهد تشابكا وتعقيدا داخل الدائرة القرب للرئيس ترامب، ولا يعرف أحد حتى الآن طبيعة علاقات التنافس والتعاون بينهم. ولا يُعرف عن ترامب إدراكه الواسع لتعقيدات العلاقات الدولية، ولا يعرف عنه ولعه بالقراءة، ولا يعرف عنه الاستماع العميق لرأى الخبراء والمختصين، ناهيك عن إهماله للتفاصيل. ومثلت حالة استقالة الجنرال فلين نموذجا للتخبط داخل البيت الأبيض. ويتركنا ذلك متسائلين عن هوية سيد البيت الأبيض الحقيقى. أسماء عديدة منها ستيفن بانون، المستشار الاستراتيجى الأهم للرئيس ترامب، أو رينس بريبوس، رئيس موظفى البيت الأبيض، أو حتى ستيفن ميلر مستشارة السياسى الذى لم يتخط عمره الثلاثين بعد، أو ربما صهره كوشنر، أو نائبة مايكل بينس.. المؤكد أننا لا نعرف بعد.