صحوة الفلول وأزمة الثورة - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الإثنين 30 ديسمبر 2024 8:24 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صحوة الفلول وأزمة الثورة

نشر فى : الثلاثاء 16 أبريل 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 16 أبريل 2013 - 8:00 ص

فاجأنا ما حدث فى مصر هذا الأسبوع، لكنه ذكرنا بما كدنا ننساه من أمر الثورة، وفتح أعيننا على ما لم ندركه أو نراه.

 

(1)

 

فى بداية الأسبوع حضر الرئيس السابق حسنى مبارك بشخصه إلى الواجهة، حين شارك فى أولى جلسات إعادة محاكمته. فى إطلالته بدا وكأنه قادم من عطلة أمضاها فى أحد المنتجعات، وعاد لكى يستأنف عمله فى القاهرة (!).

 

فقد ظهر بشعره الأسود المصبوغ ونظارته الشمسية وثيابه الأنيقة البيضاء، وحرص على أن يحتفظ بابتسامته طول الوقت، ولم يبخل على مؤيديه الذين شهد بعضهم الجلسة بالتحية، حيث ظل يلوح لهم بيده اليمنى عدة مرات. وعلى عكس الصورة التى ظهر بها أمام المحكمة من قبل، فإنه تمدد فى وضع سمح له بمواجهة الجمهور، الأمر الذى تجنبه فى المرات السابقة، حيث كان يحرص على أن يبقى ممددا على ظهره ومكتفيا بأن يحيل النظر فى سقف القاعة وفضائها، ليس ذلك فحسب وإنما ظهر الرجل متعافيا ومطمئنا وبروح معنوية عالية، وكما ذكرت صحيفة «المصرى اليوم» فى عدد الأحد 14/4 فإنه «حاول إبعاد صورة الرجل المنكسر المستسلم التى علقت فى الأذهان خلال محاكمته الأولى».

 

كان العنوان الرئيسى للجريدة له مغزاه حيث ذكرت أن: «مبارك يسترد هيبته فى قفص الإخوان»، فى إيحاء بأن الذى يحاكمه هو الإخوان وليس الثورة، وأنه جاء متحديًا ومنازلا لهم شأنه فى ذلك شأن غيره من المصريين الغاضبين هذه الأيام. وهو ما يمكن أن يقرأ بحسبانه رسالة تكاد تقلب الصورة رأسا على عقب، إذ بمقتضاها تبدو المشكلة مجرد تصفية حسابات بين مبارك والإخوان، وليست بين مبارك والمجتمع الذى انتفض وثار عليه وأصر على الإطاحة به، غضبا لكرامته واحتجاجا على فساد نظامه وسعيا لاسترداد حريته.

 

وفى حين اعتبر البعض أن أداء مبارك وتلويحه لأنصاره استفزازا لغالبية المصريين وازدراء لضحاياه، فإن أنصاره ادعوا أن مشتركى صفحتهم على الإنترنت زادوا عشرة آلاف شخص خلال ساعات المحاكمة وبعدها. وأن عددهم تجاوز المليون و80 ألف مشترك، كما ذكرت «المصرى اليوم».

 

(2)

 

لقطة المحكمة تبدو مجرد حلقة فى مسلسل طويل يسعى منتجوه ومخرجوه إلى تبييض صفحة الرجل ومحو ذاكرة المصريين، إما تعاطفا معه أو نفورا من الإخوان وكيدا لهم. لن أتحدث عن الأداء التليفزيونى لأبواق مبارك وابنه الذين ركبوا الموجة وصاروا ينافسون الثوار ويزايدون عليهم، فهؤلاء أمرهم مفروغ منهم، فضلا عن أن كلامهم أطلق فى الفضاء ويتطلب استدعاؤه إمكانيات وقدرات فنية لا تتوفر لى. لكنى سأتحدث عن الكلام المنشور الذى يسهل الإمساك به والتثبت منه، ولا تفوتنى الإشارة فى هذا الصدد إلى جرأة رجاله وبعض أنصاره، فمنهم من أسس حزبا وأقام مقرا للدعاية والعلاقات العامة (ثمة لغط حول مصادر تمويله)، ومنهم من تحدث عن تحالفات تعزز الاحتشاد فى مواجهة الإخوان، عملا بمقولة: عدو عدوى صديقى، ومنهم من أنشأ صفحة على الإنترنت تتباكى على زمنه تحت عنوان «آسفين يا ريس».

 

فى يوم 16/3، نشرت صحيفة المصرى اليوم مقالة لأحد الباحثين الشبان تحت عنوان، «عندما يقف مبارك أمام العرش»، اقتبس فيها الكاتب ــ جمال أبو الحسن ــ فكرة نجيب محفوظ فى كتابه «أمام العرش» الذى كانت بمثابة تقييم لحكام مصر أمام محكمة فرعونية يلعب فيها الإله أوزوريس دور القاضى. فى حين تمثل إيزيس دور المحامى. وفى استلهامه للفكرة فإنه استعرض مشهد محاكمة حسنى مبارك وتصور ما يمكن أن يقوله عن نفسه، وما ستقوله المحامية إيزيس عنه. والنص كله عبارة عن إبراز لما اعتبره إنجازات لمبارك سار فيها على درب سابقه أنور السادات فى تحقيقه للسلام والأمن، وتبرير لأخطائه، ثم هجاء لجمال عبدالناصر بدعوى أنه وزع الفقر على الناس وأقام دولة مهترئة حاول خلفاؤه إصلاح ما فسد منها. وقد علقت المحامية إيزيس على كلامه قائلة إن مبارك كان أمينا فى تحمل المسئولية ويكفيه أنه حفظ لبلاده السلام والأمن طوال ثلاثين عاما.

 

هذه المقالة قوبلت بحفاوة حارة من جانب محرر الجريدة الذى يوقع كتاباته اليومية باسم «نيوتن»، فوصف النص فى عدد 29/3 بأنه «بديع»، ودعا إلى إجراء تقييم علمى وموضوعى لمبارك وعصره، وطالب رجال مبارك وأعوانه الأحياء بأن يسجلوا شهاداتهم بخصوصه، لإنصاف الرجل ورفع الظلم عنه، وهى رسالة التقطها صحفى من أبواق مبارك ورجال ابنه فبعث إلى «نيوتن» بتعليق نشره فى 13/4 أيد فيه الدعوة إلى «إنصاف» مبارك (المظلوم!). وسماع وجهة النظر الأخرى فى شأن عهده، ووعد صاحبنا أن يساهم فى حملة الإنصاف باعتباره واحدا من رجاله، فى كتاب قيد الإعداد عن عصر مبارك ونهايته.

 

التعليق سابق الذكر نشر فى يوم إعادة محاكمة مبارك، ولا أعرف ما إذا كان ذلك مقصودا أم لا، لكننى حين تصفحت جريدة المصرى اليوم التى صدرت فى نفس التاريخ رجحت الاحتمال الأول. ذلك أننى وقعت على تعليقين آخرين كتبا فى ذات الاتجاه، وتضمنا دفاعا قويا عن مبارك وزمنه، وكان أحدهما مستميتا فى الدفاع إلى الحد الذى دفعه إلى إجراء مقابلة مطولة بين الذى كان فى عهد مبارك وما يحدث الآن، قارن فيها أفضل ما ارتآه فى عهد مبارك بأسوأ ما نراه فى الوقت الراهن.

 

مثل هذه الكتابات حولت إدانة حقبة مبارك الكئيبة باعتبارها مجرد وجهة نظر واجتهاد يحتمل الصواب والخطأ، كما حولت الثورة من حلم أعاد الوطن إلى أهله وأحيا آمال ملايين المقهورين فى العالم العربى إلى كارثة حلت بالبلاد وعالجت ما كان سيئا بما هو أنكى وأسوأ.

 

(3)

 

حملة محو الذاكرة وتبييض صفحة مبارك لها صداها فى الحكم القضائى الذى شهد للرجل بأنه لم يسبق له فى «أى وقت سابق حال وجوده على قمة السلطة فى البلاد أن امتنع عن تنفيذ أى حكم صدره من أى محكمة»، وهى شهادة تطوع بها فى 29/3 قاضى محكمة جنح القاهرة الجديدة، حين أصدر حكما رفض فيه طلبا لمحاميين شقيقين صدر لصالحهما حكم بالإفراج عنهما فى عام 2003 لكنه لم ينفذ. (علما بأن وزارة الداخلية لم تنفذ أى حكم صدر لصالح إطلاق سراح أى معتقل من المائة ألف الذين تم حبسهم فى عهده).

 

كنت قد تعرضت لذلك المنطوق فى وقت سابق، وأشرت إلى قائمة الانتهاكات التى مارسها نظام مبارك بحق القضاء، والتى دفعت القضاة إلى رفع لواء العصيان وتأسيس حركة استقلال القضاء، وكان ظنى أنها حالة استثنائية لكن المستشار زكريا عبدالعزيز رئيس محكمة استئناف القاهرة ورئيس نادى القضاة السابق قال لى إن الأمر أكبر بكثير من مجرد حكم يدافع عن مبارك وينحاز إلى نظامه، لأن ذلك شأن 90٪ من العاملين فى القضاء والنيابة، الذين لهم موقفهم السلبى غير المؤمن بالثورة وفى رأيه المرفق لعب دورا رئيسيا فى إفلات رموز النظام السابق من العقوبات التى يستحقونها، من خلال طمس أدلة اتهامهم وإضعافها الذى قامت به أطراف أخرى. كما أنه اعتبر قرارات الحبس التى صدرت بحق بعضهم أريد بها فى حقيقة الأمر تأمينهم وإيداعهم فى مكان آمن، يبعدهم عن مظان الانتقام والثأر من ذوى الضحايا.

 

فى إيضاحه لهذه النقطة قال إن المتظاهرين الذين حاصروا قصر الاتحادية أو ذهبوا إلى بيت الرئيس مرسى فى الشرقية أو اتجهوا إلى بيت وزير الداخية فى القاهرة، لو أن بعضا منهم استهدفوا بيوت رموز النظام السابق لألحقوا بأشخاصهم وممتلكاتهم أضرارا كثيرة. بالتالى فحين تم إيداعهم فى سجن طرة فإن تلك كانت أفضل وسيلة لحمايتهم وتأمينهم من مظان تصفية حسابات المتظاهرين معهم. علما بأنه تتوفر لهم هناك كافة أسباب الرفاهية والطمأنينة.

 

لم يقف الأمر عند طمس أدلة الاتهام وإضعافها ــ أضاف المستشار زكريا عبدالعزيز ــ وإنما حدث تعامل مع القضايا مشكوك فى براءته، حيث تم تفتيتها لإضعافها والالتفاف على الحكم فيها. فقضية مبارك اتهم فيها بقتل المتظاهرين، وهى ذات التهمة التى وجهت إلى حبيب العادلى ومعاونيه، وكان ينبغى أن تكون قضية واحدة، ولكنها فى البداية قسمت إلى قضيتين، بحيث إن صدور حكم البراءة فى الأولى يرتب البراءة فى الثانية. أضاف أن ثمة علامات استفهام حول قضايا قتل المتظاهرين التى أصدرت فيها محاكم الاستئناف أحكامها، ولكنها جميعا ألغيت فى النقض.

 

 

الخلاصة التى ينتهى إليها المستشار عبدالعزيز ويؤيده فيها المستشار سمير حافظ رئيس الاستئناف السابق أن قضايا الثورة جرى التلاعب فى أكثرها فالشرطة أخفت ما لديها من أدلة، والنيابة لم تبذل الجهد المطلوب فى تحقيق التهم والجرائم، والنائب العام السابق أدار العملية الذى أوصل القضايا ضعيفة ومتهالكة إلى القضاء، وكانت النتيجة أن تحولت عملية القصاص من قتلة الثوار والمفسدين فى النظام السابق إلى نوع من التأمين والتدليل لهم.

 

المستشار طارق البشرى له قراءة أخرى، خلاصتها أن القضاء أقحم فى أمر ليس من طبيعته أن يكون مؤهلا له، إذ إنه نصب لتحصيل حقوق الناس وليس لفض الاشتباك بين السياسيين. وحين يحاكم أمامه رئيس خرب البلد وأذل شعبه، بعدما أطاحت به الثورة وأعلنت إدانته سلفا، فإن ذلك يضع القاضى العادى فى مشكلة مع ضميره ويجعله فى حرج بالغ. ولذلك ففى رأيه أن المشكلة ليست فيما يصدره القضاء من أحكام، ولكن فى مبدأ الزج به فى العراك السياسى وإقحامه فى خصومات السياسيين، سواء فيما تقدمه الحكومة من قضايا، أو فيما تقحمه فيه المعارضة فى عراكها مع الحكومة.

 

(4)

 

لا نستطيع أن نفصل بين إطلالة مبارك وتلويحاته وبين صحوة فلول وذيول نظامه. كما أننا لا نستطيع أن نفصل بين تلك الصحوة وبين أزمة الثورة المصرية الآن، المتمثلة فى تعثر الرئاسة وتعثر المعارضة وانقسام الجماعة الوطنية إلى معسكرين متخاصمين ومتحاربين، الأمر الذى أثر سلبا على مجمل الأوضاع العامة فى البلد، وطرح خيار عودة العسكر لاستلام السلطة.

 

مفهوم أن يسعى أنصار مبارك لإعادة ترتيب صفوفهم ومحاولة الانضمام إلى المعارضة فى مواجهة ما يوصف بأنه حكم الإخوان. لكن المدهش وغير المفهوم أن تجد هذه الدعوة صدى إيجابيا فى بعض دوائر المعارضة. لأن الأخيرين إذا كانوا يحاولون إسقاط الرئيس مرسى فإن الأولين يسعون لإجهاض الثورة كلها والإجهاز على جماعات المعارضة الوطنية المتحالفة معهم، وهو ما ينطبق عليه المثل الشائع الذى يقول: أكلت يوم أكل الثور الأبيض. إن ما بات يحتاج إلى إنصاف ورد اعتبار حقا هو الثورة التى قامت قبل عامين، وليس مبارك الذى دمر سفينة الوطن ودفعها إلى مشارف الغرق جراء عبث استمر ثلاثين عاما.

فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.