كان الرجل هناك فى قلب الاحتجاجات التى سيطرت على المصنع الذى يعمل فيه منذ 27 عاما، هو حاضر فى كل الاحتجاجات مثل كل مصرى حذر، يشارك ولا يتصدر، يطمح فى مطالب الاحتجاج، لكنه يخشى عواقبه، فى 2007، بدأت الاحتجاجات الكبرى فى غزل المحلة، بيانات الإضراب تتوالى، وهو لا يستطيع أن يكتم تعاطفه.
فى قطار العمال الذى يجمع عمال الشركة من أول السنطة وحتى مدينة المحلة الكبرى مارا بقرى عديدة، يتجمع العمال من قرى مختلفة، تتحول عربات القطار إلى حلقات نقاش عن أحوالهم الضيقة، يتحمس ويشكو بصوت عال، يمسك قسيمة راتبه ليسأل: كيف أعيش؟
كلهم فى الهم سواء، لكن بعضهم كان يخدم السلطة، وينقل أحاديث القطار، عندما تزداد الأوضاع سخونة يستدعيه الضابط: «ابعد عن الإخوان»، ويكيل أمامه الاتهامات للجماعة باستغلال العمال لإشاعة الفوضى والخراب، يتجاهل حديثه بمجرد أن يتحسس جيبه فلا يجد ثمن كيلو فاكهة يدخل به على عياله، وعندما يتحسس بطنه فى لحظات نشاط الفيروس الكبدى، ويتذكر وقفته فى مستشفى التأمين فى انتظار نظرة رحمة من طبيب، وكيس دواء بفعالية رديئة، يقول مع نفسه إذا كان للإخوان أجندة خاصة، فإن له أجندة عامة مثل كل العمال، الذين لا يهمهم أن يحكم اليمين أو اليسار، الولى الفقيه أم الجنرال، الحاكم المنتخب أم المستبد، كل ما يهم أن يعيش إنسانا، وألا تكون حصيلة 27 عاما من الوقوف أمام المكن لا تتعدى بحوافزها وبدلاتها ثمن علبة دواء غير مختومة بخاتم التأمين الصحى.
عندما اندلعت انتفاضة العمال فى إبريل من عام 2008، كان هناك فى قلب ميدان الشون، لم يصعد على الأكتاف فى التظاهرات ليهتف، كان متوجسا كعادته، اختار أن يكون بين الكورال يردد الهتافات خلف القائد، كانت سعادته غامرة، وهو يشاهد صورة مبارك تهوى فى قلب الميدان وتداس بالأقدام، استبدت به الفرحة شارك فى حفل التنكيل بصورة الاستبداد، كان فقره أكبر محرض، لكن الضابط فى اليوم التالى عاجله بالاتهام: «انت إخوان؟».
لم تكترث السلطة بشهادة الفقر التى يحملها، بقدر ما اكترثت بالسؤال: هو إخوان أم إلى أى تنظيم يتبع؟.. حتى عندما قامت الثورة وتفاعل معها ظل الاتهام يواجهه، أنت إخوان وميدان التحرير كل من فيه إخوان.
لكن الثورة انتصرت وتبدلت الوجوه، وغادر نزلاء السجون إلى مقاعد الحكم، وانتقل زبانية الحكم إلى الزنازين، وبقى «جيبه ومرضه ووجعه» كما هو، لكنه اليوم يدخل فى إضراب جديد، هذه المرة دون خوف أو توجس، يحاول أن يتصدر الواجهة فقد حررت الثورة الإرادة وكسرت حواجز الخوف، لكنه يواجه بسؤال مضاد هذه المرة: «أنت فلول؟»، ومثلما كان يقول له أحدهم، الإخوان يريدون هدم الدولة، صار الإخوان يقولون له الفلول يريدون هدم الدولة وإفشال الرئيس.
السلطة تصنع أعداءها، وتفتش عنهم فى أوجاع الناس، دون أن تكترث بالوجع ذاته، هذه خبراته مع السلطة التى فشلت طوال سنوات أن تفهم إنه ليس إخوان أو فلول.. هو فقط يريد أن يعيش.. «جماعة العيش هى الحل».