لا أحسب أن ثورتى 25 يناير و30 يونيو كانتا ضد الاستبداد والفساد ثم ضد الفاشية الدينية فقط، ولكنى أحسبهما ضد كل عصور الظلام والقهر التى عاشها المصريون ولم تخرج منها مصر أبدا على مدى تاريخها بغض النظر عن لمحات من الضوء هنا أو هناك على مر الأجيال المتعاقبة، فى زمن جاوزت أغلب شعوب العالم المتقدم استقلالها إلى حريتها بينما ظللنا نحن أسرى أنظمة مستبدة تنتهج القهر والسلطة الأبوية لتبلغ قمة سلطتها بأوليجاركية «عائلية مباركية (نظام حكم العائلة أو مجموعة مختارة لا يخرج عنها) بلغت حد التوريث، وتلتها أوليجاركية» جماعة الإخوان بتحديد الحكم وآلياته بين الأهل والعشيرة وإقصاء كامل لكل من عداهم، مع إيهام المواطنين أن هذه الطرق هى المثلى لقيادة الدولة ورخائها وحماية أفرادها من شرور أنفسهم فى الوقت الذى يشاهد مواطنونا ما يحدث فى دول العالم الحديث بشكل مباشر فى عصر المعلومات والتواصل الاجتماعى، وكيف يتفاعل المواطنون مع السلطة والعكس، وما هى أسباب الحراك السياسى والاجتماعى والاقتصادى التى تؤدى بهذه الدول أن تكون على هذه الشاكلة من الاستقرار السياسى والثبات الاجتماعى والرسوخ الاقتصادى.
وعلى أساس هذا الاعتقاد علينا أن نتوسم ما يأمله المواطنون فى المستقبل القريب حتى وإن لم يستطع البعض تفسير ذلك والتعبير عنه بوضوح لأن الوضع المشتعل حاليا جعل ما يطفو على سطح الأحداث الوضع الأمنى والحالة الاقتصادية، وهما عنصران فى غاية الأهمية لا يمكن باهتزازهما أن تثبت دعائم الدولة، ولكن على الجانب الآخر وعلى المدى الطويل يجب ألا نغفل أن بناء مؤسسات الدولة السياسية على أساس سليم هو الضامن الحقيقى للاستقرار بغض النظر عن كل ما يتنازع الدولة من قلاقل أمنية أو توترات اقتصادية ومنازعات سياسية.
واذا طبقنا هذا واقعيا نجد أننا بعد الانتهاء من استحقاقات الدستور والانتخابات الرئاسية ظلت العقبة الكئود فى استكمال المؤسسات هى انتخابات مجلس النواب التى تأجلت أكثر من مرة لأسباب معلومة مرة ولأسباب غامضة مرات أخرى، نجد أن الجميع مستكين للإيقاع البطىء فى البدء بها، ربما لعدم الاستعداد الكافى على جانب ولربما لورود معطيات نعتقد أن فى مجملها جديدة على الساحة السياسية المصرية، ومن هنا جاءت صعوبة الاستحقاق عن الاستفتاء على الدستور وانتخابات الرئاسة، بل صعوبة الاستحقاق نفسه مقارنة به فى تجارب سابقة لبعض الأسباب الآتية:
ــ النظام الانتخابى
وهو نظام استحدث من حيث لايدرى أحد إلا واضعوه، وقد تراوح نظام الـ20% كقائمة مطلقة لتمثيل الفئات المنصوص عليها دستوريا من ثمانى قوائم كل منها 15 مقعدا إلى ثلاث كل منها أربعون ثم اسقر الوضع على القوائم الأربع المعلن عنها بالشكل الحالى، وهو ما أسفر عن مجموعة صعوبات، حيث تمثل النساء 56 مقعدا من الـ120 والشباب 8 مقاعد والمعاقون 8 والمصريون فى الخارج 8 وهى فئات غير جاذبة للناخبين، بينما تظل مقاعد المسيحيين الأربعة والعشرين ومقاعد العمال والفلاحين الثمانية هى عناصر الجذب فى هذه القوائم إلى حد ما، بالإضافة إلى السياسيين ذوى الشعبية إذا وجدوا لأننا نعتقد أن السياسى ذا الشعبية سيفضل الانتخابات الفردية على أن يجعل مصيره مرهونا بمصائر غير مضمونة لآخرين، وتأتى صعوبة تشكيل هذه القوائم أيضا فى فرضها قائمة احتياطية لها نفس أهمية الأساسيين من الناحية القانونية.
ــ التحالفات الانتخابية
أعطى هذا النظام ــ لغرابته ــ شعورا لدى المشتغلين بالسياسة حال إقراره أن سلطة عليا غير منظورة هى التى ستقوم بتشكيل هذه القوائم من بين القوى السياسية بلا منازع، بينما أسفر الواقع العملى عكس ذلك تماما، حيث انبرت كل القوى معلنة عن نفسها فى أكثر من تحالف انتخابى مع محاولات حثيثة من بعض السياسيين المؤثرين مثل السيد عمرو موسى والدكتور كمال الجنزورى لتكوين كيان يشمل الجميع وتوزع فيه المقاعد على القوى المتحالفة إلا أن هذا الشكل لم يخرج إلى النور بعد مع الشك فى خروجه يوما ما وهو ما جعل حزبا مثل المصريين الأحرار يؤثر خوض معركة الانتخابات منفردا بالاستعانة ببعض الشخصيات العامة والرموز السياسية المستقلة، وذلك للأسباب الآتية:
أولا: يرى الحزب أن الأصل فى التحالف السياسى أن يتشكل بعد الانتخابات وليس قبلها بحيث يكون كل حزب قد ظهرت نتائجه الحقيقية من واقع الانتخابات على أن تقوم هذه التحالفات على أساس أيديولوجى سياسى وليس على أساس نفعى من أجل مكاسب آنية سريعة.
ثانيا: يرى الحزب أن مقاعد مجلس النواب تكتسب بالعملية الديمقراطية الشعبية وليس على طاولات المفاوضات لأن فى ذلك إغفالا لأهم عنصر من عناصر العملية الديمقراطية وهو الناخب.
ثالثا: يرى الحزب أن المرحلة القادمة هى مرحلة فرز وتجنيب للقوى السياسية جميعها من خلال العملية الديمقراطية المقبلة والتى على أساسها لن يستطيع تيار أو حزب أن يفرض وصايته على المواطنين دون حق إلا الوزن النسبى الحقيقى له على أساس عدد المقاعد المكتسبة فى البرلمان.
ــ انتخابات بأهداف مسبقة
وهى أهداف متفق عليها صراحة بين غالبية القوى السياسية من جانب وبين شريحة عريضة من المواطنين من جانب آخر، وهو الاتفاق على تنحية رموز النظام السابق والأسبق ــ أى الحزب الوطنى والإخوان- ويراهن البعض على اختيارات المواطنين ورفضهم للتيارين معا ويراهن البعض الآخر على التدخل الأمنى أيضا وخاصة فى حالة الإخوان وبينما يخشى الجميع تسللهما إلى البرلمان لتتعالى بعض الأصوات المنادية أن الفرز يجب ألا يكون على أساس العضوية الفاعلة فى كلا النظامين ولكن على نسق التفكير والنمط السلوكى لهؤلاء النواب المحتملين.
ــ مجلس ذو طبيعة مختلفة
تأتى أهمية هذا المجلس ليس فقط من حرج الموقف السياسى الحالى ولكن من وضعيته الدستورية والقانونية غير المسبوقة، حيث يجب على هذا المجلس أن يغير لائحته لتتوافق مع الدستور فى الوقت الذى يجب عليه إقرار أو رفض القرارات والقوانين التى تم إصدارها بعد إقرار الدستور، وبعد ذلك اصدار القوانين التى نص الدستور عليها فى مدد محددة وذلك فى عدم وجود غرفة برلمانية أخرى (مجلس الشورى فى السابق)، بالإضافة إلى صلاحيات تشكيل الحكومة وسحب الثقة منها والعلاقات التى استحدثها الدستور بين البرلمان ورئيس الدولة، وهو ما يجعلنا فى موقف فى غاية الحرج فيما يتعلق بنوعية النواب المنتخبين فى ظل هذا النظام الذى يجعل النجاح فى الانتخابات ــ غالبا ــ على معايير غير التى يجب أن ينجح على أساسها النائب من علم سياسى ودراية اقتصادية أو خبرة اجتماعية.
نحن وان كنا نعطى الاستحقاق الديمقراطى البرلمانى اهتماما كبيرا إلا أننا لا نستطيع أن نختصر التحول الديمقراطى فى ذلك فقط، وذلك لأن العملية معقدة إلى حد بعيد، حيث يستوجب ألا يكون التحول إداريا فقط باستكمال تكوين المؤسسات شكليا دون أن يكون لهذا التحول عقائد يؤمن بها ويؤسس لها، ويستطيع من خلالها أن يكون جزءا من الحراك السياسى والاقتصادى والاجتماعى العالمى فى الربع الأول من القرن الواحد والعشرين وهو ما سبقتنا اليه العديد من الدول بالاهتمام بالمسار الديمقراطى دون الحياد عنه لأى أسباب لأنه الضامن للمساندة الوطنية والظهير الحقيقى لأى سلطة تنفيذية، ثم الاهتمام بتثبيت دعائم دولة القانون الذى تحت مظلته يتساوى الجميع وتتحقق دولة المواطنة بشكل واقعى دون أن يتمايز مواطن على الآخر بتساوى المواقف القانونية للجميع، ثم الاهتمام بتطبيق مواثيق واتفاقيات حقوق الإنسان بحيث يشعر المواطن بآدميته فى وطنه على أن تسرى هذه الحقوق على من نختلف معهم مثلما تسرى على المتفقين فى الرؤى ليكون المواطنون المصريون جزءا من عالم يتمتع فيه بآدميته وحريته بعقد اجتماعى واضح يؤدى المواطن من خلاله واجباته ويحصل من خلاله أيضا على حقوقه ومكتسباته.
إن الوصول إلى دولة متحضرة، متقدمة ومتطورة هى الصورة الذهنية المترسخة فى العقل الباطن لغالبية المواطنين المصريين، بينما التعبير عنها غالبا ما يأتى عن طريق تمنيات عن استتباب الأمن أو النمو الاقتصادى والاستقرار السياسى وهى العناصر الدالة على تخطى مراحل الثورة إلى مرحلة الدولة.