من خلال متابعتنا للانتخابات الأمريكية ارتأيت الكتابة بعد انتخابات ولايتى أيوا ونيو هامشاير مباشرة، وهى الانتخابات التى كثير ما يراها الأمريكيون أنها تعطى مؤشرات يعتد بها لمستقبل الانتخابات العامة. ولنبدأ القصة من أولها، طارحين السؤال لماذا اختار الناخب الأمريكى بداءة أن تكون ولاية أيوا وبعدها ولاية نيو هامشاير فاتحة الانتخابات الأولية، وكلاهما ولايتان لا يكاد يعمل لهما حساب فى الكونجرس الأمريكى لصغر حجمهما. ولا يعدو أن يمثل عدد مندوبى ولاية كل من أيوا ونيو هامشاير اثنين فى المائة من نسبة المندوبين فى مؤتمرى الحزبين المزمع عقدهما فى يونيو القادم وذلك لاختيار مرشح عن كل حزب.
وليس هناك سبب واضح لاستهلال الانتخابات الأمريكية الأولية فى كل من أيوا ونيو هامشاير فى الأول والتاسع من فبراير على التوالى، سوى أن نواب هاتين الولايتين فى الكونجرس حاربوا أكثر من غيرهم من أجل أن تحظى ولايتيهما بهذا الامتياز. فكل أربع سنوات تصبح هاتان الولايتان محط الأنظار والاهتمام الأكبر للمرشحين وكذا الناخب الأمريكى عموما، فهما لا شك يعطيا توجهات لها دلالتها لمستقبل المرشحين، مما يساعدهم على إيجاد التمويل الكافى لاستمرار حملاتهما وجذب اهتمام وسائل الإعلام واستمالة الناخبين المستقلين والناخب المتردد، كما أن هاتين الولايتين يمثلان أيضا الحد الفاصل لقرارات الانسحاب من قِبَل المرشحين. ونشهد اليوم تقلصا فى عدد الجمهوريين إلى ست مرشحين بعد أن كان عددهم يفوق الدستة.
***
وقبل تحليل نتائج انتخابات كل من ولايتى أيوا ونيو هامشاير يجدر الإشارة باختصار إلى طريقة الانتخابات المتبعة فى الولايات المتحدة عموما. فلكل ولاية طريقتها الخاصة بها ووفقا لقانون الولاية، حيث إنه ليس هناك قانون فيدرالى ينظم الانتخابات على المستوى الولايات المتحدة ككل. فبينما يتم الانتخاب فى ولاية نيو هامشاير بالاقتراع السرى أو برفع الأيدى، فإن الانتخابات فى أيوا تتم من خلال تكوين تجمعات ودوائر انتخابية مستقلة فى كل حى لانتخاب المرشح والتى تصل تقريبا إلى ألف وستمائة دائرة. وهذه الدوائر معروفة بالـcaucus، ويتم الانتخاب فيها إما عن طريق الاقتراع السرى أو من خلال عقد حلقات نقاش مصغرة فى محاولات مدنية لاستمالة أكبر عدد من الأصوات المحتملة للمرشح. وقام الكثير من المرشحين بمحاكاة حملتى الرئيس أوباما السابقة من خلال الاتصال الشخصى المباشر بالناخبين أو إيفاد المتطوعين إلى الناخب لتشجيعه على التصويت، ويصل عدد المتطوعين إلى عشرات الآلاف. فالعملية الانتخابية عملية شاقة ومجهدة للمرشح والناخب الأمريكى، على حد سواء.
واتت انتخابات أيوا ونيو هامشاير هذا العام بعدد من المفاجآت. أولهما، التقارب غير المعهود بين المرشحين الديمقراطيين كلينتون وساندرز، حيث فازت كلينتون بـ49.8% بينما حصل ساندرز على 49.6% من أصوات الديمقراطيين فى أيوا أى بفارق اثنين فى المائة من الأصوات. وهو الأمر الذى يكاد يعطى لنا مؤشرا للمرشح المحتمل فى انتخابات الحزب. ثم جاءت مفاجأة الاكتساح المدوى لساندرز فى انتخابات نيو هامشاير بستين فى المائة من الأصوات مقابل ما يقل قليلا عن أربعين فى المائة لكلينتون. ووضحت قوة ساندرز فى جذب أصوات الليبراليين والمستقلين فى الحزب الديمقراطى، وستقوم المعركة بين هذين المرشحين مستقبلا فى تعبئة أصوات الأقليات لاستحواذ أكبر عدد ممكن من الأمريكيين الأفارقة واللاتين.
وفى مفاجأة ثالثة، يفتخر ساندزر بأنه استطاع تعبئة صغار المانحين وجمع أكثر من عشرين مليون دولار خلال شهر يناير وحده من أكثر من سبعة آلاف ناخب، وهو ما يجعله مستقلا تماما وغير خاضع لأى ضغوط من قِبَل المانحين وذوى المصالح. ويُعلق السياسيون ووسائل الإعلام أن نجاح ساندرز فى تعبئة هذا القدر الهائل من التمويل ــ أسوة بحملات أوباما الانتخابية ــ سيمكنه من الاستمرار فى المنافسة ضد كلينتون حتى النهاية، أى إلى حين انعقاد مؤتمر الحزب وهو وحده سوف يقرر من يكون مرشحه فى النهاية.
وجاءت رابع تلك المفاجآت فى تراجع ترامب عن المقدمة فى أيوا، حيث اكتسح كروز ــ السيناتور من ولاية تكساس ــ أصوات المحافظين حاصلا على أعلى نسبة أصوات على الإطلاق، معتقدا بذلك أنه حقق نجاحا سوف يؤهله بأن يصبح المرشح المحتمل للحزب الجمهورى. بيد أنه سرعان ما استعاد ترامب شعبيته وفاز فى نيو هامشاير بخمسة وثلاثين فى المائة من أصوات الناخبين وتراجع كروز إلى المرتبة الثالثة بعد حاكم ولاية أوهايو جون كازيش فى مفاجأة أخرى من العيار الثقيل. ويشتد التنافس بين مرشحى الحزب الجمهورى وهم كل من ترامب وكروز وروبيو وبوش وكازيش. وعلى عكس ترامب الذى يعتبر دخيلا على الحزب يتنافس المرشحون الأربعة على ترشيح الحزب لهم باعتبارهم يمتثلون بسياسته ويؤمنون بقيادته.
***
وتخرج هذه المعركة الانتخابية عن نطاق المألوف، فإن الحرب تدور بين كل من مؤسستى الحزبين من ناحية، والشعب الأمريكى من ناحية أخرى، أكثر من قيامها بين مرشحى الرئاسة أنفسهم. وظهر ذلك جليا بعد استمرار تمسك كل من ساندرز وترامب بزمام الأمور فى الانتخابات الأولية. ولقيت انتقاداتهما الموجهة إلى مؤسستى الحزب والسياسيين فى واشنطن صداها لدى الناخب الأمريكى، مما دفع كل منهما إلى تصعيد حملته وفضح سياسات واشنطن المتحيزة ضد غالبية الشعب الأمريكى. وينفرد ساندرز بانتقاد جشع وول ستريت والمؤسسات العملاقة والنظام المصرفى التى لا تكترث سوى بتحقيق الربحية دون مبالاة بتوازنات الاقتصاد الوطنى ومتطلباته. وعلى الرغم من وقوف كل من ترامب وساندرز على النقيض، فإنهما يتفقان على شىء واحد وهو أهمية أن يكون للناخب صوت مسموع ومؤثر فى هذه الانتخابات وتحريره من النخبة الغنية التى لا تخدم سوى مصالحها الذاتية، كما يريا أنفسهما أجدر من غيرهما فى توفير قيادة مستحدثة للحزبين واستقطاب القاعدة الانتخابية التى تقع خارج دائرة الخدمات التى تقدمها المؤسستان للنخبة. وهى تلك القاعدة التى ترى أحقيتها فى أن تفرض نفسها فى انتخابات هذا العام.
فى حين تسعى هيلارى كلينتون ــ اصطيادا فى المياه العكرة ــ وإضعافا للمرشحين خارج نطاق المؤسسة إلى التأكيد على أنها الأصلح والمرشح الأوحد القادر على تنفيذ وعوده وتحقيق نتائج ملموسة فى التعامل مع الكونجرس ومؤسسات واشنطن، لما لها من خبرة ومعرفة ببواطن الأمور فى واشنطن. فليس الأفضل هو من يبالغ فى وعوده والإخفاق فى تنفيذها، تلميحا لغريمها الأول ساندرز، ولكن الأقدر هو الأكثر واقعية والذى يلتزم بما يعد به أمام ناخبيه.
وقامت كلينتون بتصعيد انتقاداتها ضد ساندرز بعد النجاح الساحق الذى حققه فى نيو هامشاير بوصفه أنه لا يعدو أن يكون البطة العرجاء لا خبرة له فى المناورة بين كواليس واشنطن وفى مواجهة الكونجرس، مؤكدة أن الكونجرس قادر على شل حركته تماما منذ اليوم الأول. ويبدو أن كلينتون هى الوحيدة التى تنظر إلى ما بعد الانتخابات الأولية والعامة من خلال الوقوف على أرضية أكثر صلابة.
***
وأخيرا وليس آخرا، تطرح هذه الانتخابات السؤال المهم، ما إذا كانت أمريكا بالفعل على استعداد إلى خوض الثورة السياسية والاقتصادية التى يطالب بها ساندرز. أم أنها فى النهاية سوف تحسم أمرها ــ وهو الأكثر ترجيحا ــ فى الوسط فى شخصية هيلارى كلينتون. فإن الناخب الأمريكى فى مفترق الطرق، هل سيواصل حملته ضد المؤسسات أم أنه سوف يتجه مرة أخرى إلى الوسط ويرتضى فى النهاية بمصيره والوضع الراهن.
ويمكن لنا القول إننا فى هذه الانتخابات أمام أمريكيتين، فإن الانتخابات الأولية أثبتت انقسام أمريكا إلى فريقين متباعدين أيديولوجيا، أمريكا التقدمية والممثلة فى ناخبى ساندرز المؤيدة لثورة سياسية واقتصادية وإدخال مفهوم العدالة الاجتماعية والدراسة المجانية فى جامعات الدولة والتأمين الصحى، وكلها مفاهيم مستجدة بالنسبة للناخب الأمريكى والسياسات الحزبية، وأمريكا اليمينية المتطرفة الممثلة فى ناخبى كروز وروبيو وبدرجة أقل ترامب الذى يطالب هو الآخر بالثورة على فساد السياسيين فى واشنطن. وسوف تحتدم حرب الأيديولوجيات فى الولايات الكبرى التى يقطنها الأغنياء وكبريات الشركات مثل تكساس وكاليفورنيا وفلوريدا.
وحتى إن جاز لنا توقع فوز هيلارى كلينتون فى النهاية، وذلك لأن الناخب الأمريكى مازال يعتنق النظام الرأسمالى وأنه ليس مستعدا بعد لاحتضان أفكار ساندرز تحت زعم أنها أفكار يسارية متطرفة، فى حين أنها لا تطالب بأكثر مما هو مطبق عمليا فى الدول الأوربية، سواء بالنسبة للعدالة الاجتماعية أو التأمين الصحى العام والمكفول للجميع. فإن ما حققه ساندرز من نجاح فى أيوا ثم نيو هامشاير هو نجاح فعلى لأفكاره. وختاما ما لا يمكن التقليل من شأنه هو أن هذه الانتخابات فتحت الباب لعامة الشعب لأن يدلى بدلوه وأن يتعرف على تداعيات وسلبيات سياسة النخبة فى واشنطن.