يبدو أن مسيحيى الشرق فى حيرة من أمرهم إزاء الانتفاضات الثورية التى تجتاح العالم العربى. وتنطلق هذه الحيرة من أمر بوجهين متكاملين. الوجه الأول هو ان هذه الانتفاضات تثور على أنظمة استبدادية. وأنها تحاول استعادة حقوق الإنسان العربى فى الحرية والكرامة والحقوق الانسانية العامة الأخرى، ومن بينها حق المشاركة فى صناعة القرار الوطنى.
ويعانى مسيحيو الشرق، كما يعانى مسلمو الشرق، من استبداد هذه الأنظمة ومن انتهاكاتها المتمادية لحقوقهم الأساسية، ولذلك فإنهم لا يستطيعون من حيث المبدأ إلا أن يكونوا ليس فقط إلى جانب هذه الانتفاضات الثورية، بل فى أساسها أيضا. وثمة سوابق تاريخية ثلاث مماثلة:
● الانتفاضة العربية ضد التتريك.
● الانتفاضة العربية ضد الاستعمار الأوروبى (الفرنسى والبريطانى).
● الانتفاضة العربية ضد الاحتلال الصهيونى.
لم يكن مسيحيو الشرق مجرد مشاركين فى تلك الانتفاضات، بل كانوا قياديين فيها ولها. ولذلك فإنهم لا يستطيعون اليوم إلا أن يكونوا جزءا من الانتفاضات الجديدة ضد الاستبداد الداخلى الذى عانوا منه طويلا كسائر المواطنين العرب الآخرين. ومن أبرز علامات هذه المعاناة الهجرة المسيحية من بعض دول المنطقة.
إن أهمية المشاركة الجامعة لكل مكونات المجتمع دينيا ومذهبيا وحتى عنصريا فى هذه الانتفاضات، تؤكد أن الشعوب فى الدول العربية أخضعت للاستبداد ولم تخضع له، وانها بالتالى تمتلك الارادة الذاتية للتخلص منه، وانها لا تعانى من قابلية الخضوع للاستبداد. والمسيحيون هنا ليسوا استثناء، بل انهم بحكم ثقافتهم فى أساس هذه القاعدة.
أما الوجه الثانى للحيرة المسيحية فإنه يرتسم من خلال عدم وجود بديل واضح أو حتى مجرد تصور راجح لما بعد النظام الاستبدادى الذى ينتفض الناس للتخلص منه. وتصل بهم الحيرة إلى حد القلق من احتمال أن تشكل هذه الانتفاضات رافعة لقوى إسلامية متطرفة للوصول إلى السلطة. ان لهذا القلق ما يبرره، بل ان انكاره هو تجاهل لتطور يمكن أن يفرض نفسه. ولا يكفى للمسلمين أن يقولوا للمسيحيين لا تقلقوا حتى يتبدد القلق، بل لا بد لهم من القيام بعمل ما يساعد على إزالته، ان لم يكن على تبديده.
فى الاساس فان ما يجرى فى بعض العالم العربى هو انتفاضات شعبية وليس انقلابات عسكرية. فالانقلاب يأتى بقيادة جاهزة، وببيان أول جاهز، وبرؤية للحكم جاهزة أو مجهزة. أما الانتفاضة الثورية، فانها ليست عملية تغيير من فوق، انها عملية اجتثاث لنظام استبدادى من جذوره وهى حركات لا تملك بطبيعتها لا قيادة ولا برنامج عمل. كل ما تملكه هو الشعارات العامة بالحرية والكرامة ومحاربة الاستبداد ومكافحة الفساد. وبقدر ما تشكل هذه الشعارات قوة دفع لها، فإنها تشكل نقطة ضعف أيضا. ذلك ان التعميم فى شعارات التغيير، وفى المشاركة التى تتجاوز حدود الطوائف والمذاهب والمناطق، يفتح الأبواب أمام صيادى الفرص من مختلف التوجهات ومنهم الاسلاميون المتطرفون أيضا. من هنا يجب تفهم طبيعة وواقعية القلق المسيحى فى ضوء تجارب الاحداث العدوانية التى عرفها العراق وعرفتها مصر أيضا ــ إلى حد ما ــ والتى شعر المسيحيون بأنهم كانوا هدفا لها.
يضع هذا القلق، الذى قد يصل إلى حد الخوف، مسيحيى الشرق أمام أمرين أحلاهما مرّ؛ إما الوقوف إلى جانب الأنظمة الاستبدادية التى عانوا منها كغيرهم من المواطنين، وذلك على اساس انهم يعرفون حجم المعاناة وأنهم تآلفوا معها، وإما التعرض إلى معاناة أشد قد ترتب على التطرف الدينى نظاما يخلف نظام الاستبداد القائم. فالتطرف ــ إذا أتى ــ قد يستهدفهم فى عقيدتهم وفى حريتهم الدينية، وهذا مصدر تخوفهم. يؤسس هذا التخوف لمنطق يشجعهم إلى الأخذ بمعادلة قبول الضرر الأقل لمنع وقوع الضرر الأكبر. وهو منطق يبرر أو يشجع مسيحيى الشرق على إخراج أنفسهم من دائرة المشاركة الطبيعية فى انتفاضات التغيير العربية، للدخول فى دائرة المشاركة غير الطبيعية ولو السلبية وغير المباشرة فى الدفاع عن الأنظمة الاستبدادية.
● ● ●
يدرك مسيحيو الشرق بلا شك أن هذا الخيار المرّ يتناقض مع الادوار التاريخية التى قاموا بها والتى ساهمت فى بلورة الشخصية العربية، وفى النهضة العربية الحديثة، وفى حركات الاستقلال الوطنى. كما يدركون أنه يتناقض أساسا مع طبائعهم الانسانية، ومع المقومات الحميمة لهويتهم الثقافية الدينية. يعكس هذا الأمر بوجهيه صراعا ذاتيا فى أعماق الشخصية المسيحية الشرقية. وهو صراع يفرز كمّا من علامات الاستفهام الكبيرة التى لا تتوفر اجابات واضحة عنها. من علامات الاستفهام هذه: ماذا إذا ربحت الأنظمة الاستبدادية المعركة المصيرية التى تخوضها للدفاع عن ذاتها؟ فى هذا المجال فإن الاسلاميين لن يكونوا وحدهم ضحاياها. ان كل المواطنين ــ مسلمين ومسيحيين ــ سيدفعون الثمن. وحتى إذا لانت الأنظمة وعملت فيما بعد على استرضاء الإسلاميين (وهناك سوابق عديدة عرفتها مصر تحديدا فى عهد الرئيس السابق أنور السادات)، فإن المسيحيين سوف يكونون اولى ضحاياها.
ومن علامات الاستفهام أيضا: ماذا اذا انتصرت الانتفاضات الشعبية على الأنظمة الاستبدادية، وتجاوزت مرحلة الاضطرابات المتوقعة التى تمر بها حاليا، واستقرت على صيغة وطنية ومدنية حديثة ما فى السلطة الجديدة؟ ماذا يكون موقف مسيحيى الشرق منها اذا كانوا قد تخلوا عنها أثناء الشدّة وساندوا السلطة الاستبدادية؟
كان مسيحيو الشرق جزءا اساسيا من السلطات الوطنية فى مصر وسوريا والاردن ولبنان بعد التحرر من الاستعمار لانهم كانوا ضد الاستعمار.. فأى دور سيكون لهم بعد التحرر من الاستبداد اذا لم يكونوا ضد الاستبداد؟
ومن الأسئلة التى تعكس احتمالات واقعية أكثر تعقيدا وخطورة السؤال التالى، ماذا إذا تجاوبت الانظمة مع دعوات الإصلاح، وتخلت عن الاستبداد واحترمت حقوق الناس وكراماتهم؟ ماذا اذا انتهت الانتفاضات إلى اصلاح الأنظمة وليس إلى اسقاطها؟. أى مستقبل يكون للمسيحيين الشرقيين فى الوضع الجديد؟. فاذا كانوا مع الأنظمة فى معركتها ضد الانتفاضة، فانه يخشى أن تصبح مصالحهم جزءا من الثمن الذى ستدفعه هذه الأنظمة لحركات التغيير. وإذا لم يكونوا مع الأنظمة ولا مع الانتفاضة، فان تغييب حضورهم قد يؤدى إلى تغييب دورهم وتاليا إلى تغييب مصالحهم وربما إلى تغييب حقوقهم فى عملية المساومة على اعادة تركيب الوضع الجديد.
● ● ●
من أجل ذلك من المهم إلقاء الضوء على الأمور التالية:
● الامر الأول هو أن مسيحيى الشرق الذين عانوا طويلا، ولايزالون يعانون من استبداد بعض الأنظمة السياسية، لا يستطيعون الا أن يكونوا فى مقدمة الصفوف الداعية إلى الاصلاح والعاملة عليه.
● الأمر الثانى هو ان الاخلاق المسيحية، والثقافة المسيحية والمصالح الوطنية للمسيحيين تزيدهم التزاما بالعمل على مكافحة الاستبداد والفساد والظلم وانتهاك الكرامة الانسانية.
● الأمر الثالث هو أن الانتفاضات التى تعصف بالعالم العربى ليست من وحى خارجى، ولكنها استجابة لمعاناة داخلية. والمسيحيون جزء من هذا الداخل العربى، وجزء من هذه المعاناة، وبالتالى فهم يستطيعون ويفترض أن يكونوا جزءا من القوة الخلاصية ومن نور الأمل بغد أفضل.
● الأمر الرابع هو ان هذه الانتفاضات التى لا تملك مشروعا للمستقبل معرضة لأن تستغل كمركبة لنقل فئات متعددة من الانتهازيين السياسيين والعقائديين والاسلاميين المتطرفين إلى السلطة. وهو أمر تحتاج هذه الانتفاضات العربية من أجل التصدى له إلى الاستقواء بمسيحيى الشرق. أما سلبيتهم، أو حتى انكفاؤهم، فانه يضعف هذه الانتفاضات، ويعزز منطق القوى المتربصة ويزيد من فرص انتهازها.
الأمر الخامس هو ان نجاح الانتفاضات اولا فى التخلص من السلطات المستبدة، وثانيا فى قطع الطريق أمام الانتهازيين من صيادى الفرص، لا بد أن يتوّج بوضع عقد اجتماعى اسلامى ــ مسيحى عربى، يقيم الدولة المدنية ويحترم الحقوق الدينية ويرسى قواعد المساواة فى المواطنة.