بدأت ظاهرة الأطفال بلا مأوى فى الانتشار فى مصر فى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات مع توسع سياسة الانفتاح الاقتصادى والمركزية الشديدة فى المدن التى أدت إلى تهجير أهالى القرى إلى العشوائيات المحيطة بالمدن الكبيرة بحثا عن العمل والخدمات.
ومع انتشار العشوائيات بدأ التكوين العائلى للأسرة المصرية يتغير. فزادت نسبة الطلاق بسبب ظروف الحياه الصعبة فى عشش ضيقه تحرم قاطنيها من كل سبل الحياه الكريمة، مما جعل نجاح الحياة الزوجية وتربية الاطفال فى جو اسرى صحى أمر يكاد ان يكون مستحيلا.
اختلفت الإحصاءات حول أعداد الأطفال بلا مأوى، وقد تراوحت ما بين مليون وعشرات الآلاف، يعنى هذا التفاوت الكبير أننا لا نعرف الاعداد الحقيقية. لكن كل من يعمل فى هذا المجال يستطيع ان يؤكد ان الظاهرة فى تفاقم مستمر، إذ إننا منذ عشر سنوات كنا قلما نرى طفلا أقل من الثانية عشرة سنة فى الشارع وقلما نرى فتيات، حين كان المجتمع المصرى بتركيبته المحافظة لا يسمح بنزول الفتيات. أما الآن فإننا نصادف أطفالا فى سن الرابعة والخامسة من الجيل الاول من الاطفال بلا مأوى، وهو ما يعنى أن الطفل بعد ان كان يفتح باب منزله ليهرب بإرادته عندما يصل إلى سن تسمح له بذلك، أصبح الآن يُفتح له الباب ويتم طرده من المنزل، ونسبة الفتيات فى الشارع بعد أن كانت منعدمه أصبحت تمثل ثلث الاطفال الذين نتعامل معهم فى الشارع.
●●●
الأبحاث القليلة التى تمت على هذه الظاهرة أظهرت أن أسباب اختيار الطفل هذه الحياه القاسية بالرغم من ان لديه أما وأبا على قيد الحياة يرجع معظمها إلى الفقر، إذ جاء الإهمال والعنف البدنى والجنسى فى المرتبة الاولى، تليها اسباب اخرى مثل استغلال الاطفال فى العمالة والتمييز بين الاخوات.
مع ازدياد اعداد الفتيات، بدأ العاملون فى هذا المجال ملاحظة ان العنف ضد الفتيات فى الشارع اكبر، خاصة العنف الجنسى من الاغتصاب إلى الزج بالفتيات إلى البغاء، هذا بالإضافة إلى ما ينتج عن هذه الممارسات من ادمان للجنس وامراض تناسلية وحمل، يحدث للفتيات ابتداء من سن الحادية عشرة مما ينتج عنه ظهور جيل جديد من الاطفال بلا مأوى لديهم أم طفلة وأب مجهول، هؤلاء يكون الشارع بيتهم من أول يوم صيفا وشتاء وعادة ما يُحرموا من الرضاعة الطبيعية بسبب سوء صحه الأم وسوء تغذيتهم ويعيشون على ألبان صناعية عندما تحصل الأم الطفلة على علبة وفيما عدا ذلك يعيشون على اعشاب بالسكر أو شاى بلبن أو بليلة، ولنا ان نتخيل تأثير هذه الحياة على صحتهم فالمعروف أن نسبة الوفاة بين هؤلاء عالية جدا كما ان نسبة حوادث السيارات والحروق والاصابات مروعة وفى احيان كثيره تترك عاهات مستديمة. مع ظهور الجيل الثانى من هؤلاء الاطفال ظهرت بعض حالات الاتجار بالبشر، حيث تقوم الام ببيع ابنها بعد الولادة مباشرة مقابل بضعة آلاف من الجنيهات إلى وسيط يقوم بإعادة بيع الطفل. كما ان الام قد تفضل ايجار وليدها لعصابات التسول مقابل بضعة جنيهات تأخذها «الام الطفلة» يوميا.
أحب أن أنوه هنا أن كثيرا من أبناء الجيل الثانى من الاطفال بلا مأوى هم الآن فى سن الثامنة والعاشرة ومازالوا بلا أوراق ثبوتية بسبب فشل الأم فى استخراج شهادة ميلاد لأن الأب غير معلوم، كما انها تعرض نفسها للحبس والاتهام بالبغاء إذا سعت إلى إثبات النسب عن طريق قسم الشرطة، خاصة أنها تذهب هناك فى هيئة مزرية وسن صغيرة وبدون خلفيه تربوية او تعليمية تسمح لها بعرض مشكلتها بشكل يكسب تعاطف المجتمع. النتيجة تكون طفلا شهادة ميلاد. وبدون هذه الشهادة يضيع حق هذا الطفل فى الحصول على التعليم او التطعيمات او الرقم القومى.
●●●
حيث أننا على اعتاب إصدار دستور جديد لمصر ما بعد الثورة، ثورة طالبت بحق كل مصرى فى «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية»، ثورة شارك فيها أطفال الشارع إيجابيا بالرغم من محاولات بعض الجهات إلصاق عمليات البلطجة والتدمير بهم (لكن لهذا الموضوع حديثا آخر) يكون من واجبنا ان نرفع إلى القائمين على كتابة الدستور والقائمين على شئون الحكم فى مصر رؤية المتخصصين العاملين منذ عقود مع هؤلاء الاطفال والعارفين بمشكلاتهم واحتياجاتهم.
●نحتاج إلى دستور يضمن ان تتجه موارد مصر الأساسية إلى تنميه كل القرى الفقيرة والعشوائيات والى التركيز على تنمية المرأة المصرية والطفل فى هذه المناطق.
● لابد أن ينص الدستور على مسئولية الاب والام عن سلامة أبنائهم وأن ينظم القانون كيفية محاسبة الآباء على إهمالهم فى صيانة صحة وكرامة ابنائهم.
● دستور ما بعد الثورة لابد ان ينص على حق الطفل فى اللجوء للدولة لحمايته من أبويه إذا ما تعرض للإهمال الجسيم او التعذيب او الاستغلال الجنسى او عمالة الاطفال، ولابد ان ندرك اننا اذا لم نحقق هذا فإننا لن نستطيع ان نتغلب على ظاهرة الطفل بلا مأوى أبدا، لأنك إذا سألت أى طفل فى الشارع عن سبب لجوئه إلى هذه الحياة يرد بدون تفكير إنه لم يجد من يلجأ إليه فقرر الاعتماد على نفسه.
● لابد من مراجعة أسلوب إدارة المؤسسات الإصلاحية والتى تخلط بين الطفل الحدث والطفل بلا مأوى فتساعد على نشر الجريمة بين اطفال جاءوا إلى المؤسسة فقط لأن ليس لديهم مأوى آخر وآخرون ارتكبوا جرائم، هذا بالإضافة إلى ضبط الظروف اللاإنسانية التى يعيشها هؤلاء الأطفال والتى تجعل نسبة كبيرة منهم يهربون إلى الشارع.
● هناك حديث مقلق عن خفض سن الرشد إلى السادسة عشرة وهو أمر مخالف لكل الدراسات الطبية والنفسية والتى تؤكد عدم اكتمال البنيان الجسدى او الشخصية قبل سن الثامنة عشرة، وليس من المعقول أن يتم القبض على طفل فى السادسة عشرة والزج به فى زنزانة بها مجرمون فى سن الاربعين والخمسين ثم عرضه على محكمة قد تحكم عليه بالسجن فى سجون الكبار أو حتى بالإعدام. والجدير بالذكر هو أن الكثير من الدول الأوروبية تستثنى سن العمالة وتجعله من السادسة عشرة بشرط ألا يكون العمل شاقا بدنيا أو نفسيا على الطفل.
● لابد ان يؤكد الدستور على حق الطفل فى استخراج اوراق رسمية حتى إذا كان الاب مجهولا حتى لا يحرم من حقوقه فى المواطنة.
●●●
قامت ثورتنا من أجل المصريين المظلومين ولا أتخيل ظلما اكبر من الظلم الواقع على أطفال مصر النائمين تحت الكبارى وفى الخرابات والبيوت المهجورة. وإذا لم نواجه هذا الظلم بإرادة سياسية ومجتمعية حقيقية، فإننا وأبناؤنا سندفع ثمنا كبيرا فى دنيتنا كما فى آخرتنا.