خيانة المثقفين.. وتعثر الثورة - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 5:55 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خيانة المثقفين.. وتعثر الثورة

نشر فى : الخميس 17 نوفمبر 2011 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 17 نوفمبر 2011 - 8:00 ص

يبدو الحديث عن الثقافة والمثقفين ترفا غير مطلوب فى وقت تنشغل فيه مصر كلها بالوثيقة الغريبة المتعلقة بالمبادئ الدستورية، والتى طرحها على السلمى نائب رئيس وزراء حكومة يفترض أنها تحكم بشرعية الثورة، وأن رئيسها ذهب قبل تشكيل حكومته للتحرير ليستمد الشرعية منه. هذه الوثيقة الغريبة التى جعلت مصر أضحوكة العالم، لما ورد فيها من مواد شاذة تسعى لوضع المجلس العسكرى ليس فوق القانون فحسب، وإنما فوق الدستور أيضا. لأن هذه الوثيقة ليست إلا الجزء المرئى من جبل الجليد العائم الذى تسعى كتلته المطمورة تحت السطح إلى الإجهاز على الثورة التى أذهلت العالم بنبلها وتحضرها، ووضعت مصر من جديد فى مكان مرموق على الخريطة الدولية، بعدما كان نظام مبارك الساقط قد أزالها عن تلك الخريطة منذ عقود، وحولها إلى تابع مهيض للسياسة الأمريكية فى المنطقة، ولاعب ثانوى فى الحقبة السعودية المقيتة، والذخر الاستراتيجى للعدو الصهيونى. لكن قوى الثورة المضادة فى الداخل والخارج، لا تريد لهذه الثورة النبيلة أن تحقق مشروعها الحضارى فى التغيير الجذرى، بعدما ألهم هذا المشروع العالم ونال تقديره، دون أن يدرك من يحكمون باسم هذه الثورة العظيمة أهميتها، فى وضع مرير تنطبق عليه المقولة الشهيرة: لا كرامة لنبى فى وطنه.

 

لكنى وأنا أتابع هذا الأسبوع فى لندن أخبار مصر، وتعليقات الإعلام البريطانى المستهجنة لها، والمستغربة أن تصدر مثل هذه الوثيقة عن نفس البلد الذى قام بثورة يتعلم منها العالم بأسره، وهى تعليقات جاءت فى أعقاب الاستجواب الذى قدمه آندى سلوتر، وزير العدل فى حكومة الظل العمالية، فى البرلمان واستجوب فيه وزير الخارجية، وليام هيج، بشأن ضرورة كشف حكومته عن بيان كامل بأموال مصر المنهوبة والمودعة فى البنوك البريطانية. وتذرع الحكومة البريطانية بأنها لم تفعل ذلك لأن الحكومة المصرية لم تمدها بالوثائق التى تتيح لها فعله بشكل قانونى سليم، وأنها لن تفصح عن تلك الأموال ما لم تصلها تلك الوثائق. أدركت أننى وقد أنفقت الأسابيع القليلة الماضية أتحدث عن خيانة المثقفين، وعن جنايتهم على مصر على مد العقود الأربعة الماضية، لم أكن بأى حال من الأحوال بعيدا عن هموم مصر الكبرى. لأن حديثى عن الثقافة، وعن خيانة المثقفين فى مصر لدورهم المهم فى مواجهة السلطة بالحقيقة، ليس مفصولا عن تلك الوثيقة الفضيحة. ليس فقط لأن كتبة هذه الوثيقة هم أساسا من المثقفين، إذا ما أخذنا تعريف جرامشى الواسع للمثقفين. فالمثقفون عنده هم كل من يساهم فى خلق خطاب الهيمنة المراوغ، وييسر للسلطة إحكام قبضتها على الواقع، باعتبار أنها تمثل مصلحة الوطن العليا، التى لابد أن من كتبوا هذه الوثيقة الفضيحة اعتبروا أنها تمثلها.

 

فهذه الوثيقة نفسها، ومحاولة الإعلام وعدد من «المثقفين» بين قوسين، تسويغها وتمريرها وخلق خطاب يسخر من معارضيها، هى الدليل الدامغ على أن خيانة المثقفين لا تزال تمارس فعلها فى الواقع المصرى بعد الثورة كما مارسته فى خدمة الاستبداد قبلها. فلو كانت مصر قد نجحت فى تعرية كل من عمل من المثقفين مع نظام مبارك فى خدمة التردى والاستبداد والفساد وعزلهم وتجريدهم من أى مصداقية أو نفوذ، وتطهير أجهزة الثقافة والإعلام كلها منهم إلى غير رجعة. ومنعهم من تمييع خطاب الثورة وتزييفه، وخلط أوراقه مرة بعوار التعديلات الدستورية الذى أدى وضع مصلحة فريق سياسى فوق مصلحة مصر الثورة، وقاد إلى انقسامات معطلة، وأخرى بعوار وثيقة المبادئ الدستورية التى جعلت ثورتنا العظيمة أضحوكة فى أفواه الكثيرين. أقول إنه لولا خيانة المثقفين لما كنا بعد تسعة أشهر فى هذا الوضع المزرى الذى تتعثر فيه الثورة، وتستجدى من المجلس العسكرى تلبية أقل مطالبها. وربما كنا الآن فى وضع أفضل مما فيه الثورة التونسية، وكان المجلس العسكرى قد سلم مقاليد الحكم، بعد ستة أشهر كما وعد، لحكومة منتخبة وفق دستور جديد.

 

فلو اضطلع المثقفون الحقيقيون القادرون على طرح الحقيقة فى مواجهة السلطة، وعلى بلورة خطاب يحمى الثورة ويرسخ أهدافها وأولوياتها فى العقول، لما أمكن أصلا كتابة مثل تلك الوثيقة. ولما تعثرت الثورة بهذا الشكل المزرى الذى يتطلب منها ثورة جديدة على الثورة. لأن الجميع يعرفون أن من قام بالثورة هو الشعب المصرى العظيم، وليس المجلس العسكرى، وأن ما جرى فى مصر كان ثورة شعبية عارمة بكل معانى الكلمة، طالبت بإسقاط النظام، ولم يكن انقلابا عسكريا يضحى برأس النظام من أجل استمرار النظام نفسه فى الحكم. وأن تسليم السلطة للمجلس العسكرى لإدارة شئون البلاد فى فترة انتقالية لا تتجاوز الستة أشهر، جاء بتفويض من تلك الثورة، وبناء على شرعيتها الجديدة. لذلك فلا معنى لأن يقف هذا المجلس العسكرى، كما يقول على مسافة واحدة من الجميع، من الثورة ومن أعدائها. ولو كان هناك خطاب ثقافى له نزاهته وبعد نظره وقوته لما جرى كل هذا التخبط فى مصر. لأن هذا الخطاب الثقافى النزيه كان سيقوم كل اعوجاج، ويصر على طرح الحقيقة، حقيقة أن الثورة هى مصدر الشرعية وأن أهدافها وأولوياتها هى أهم الأولويات فى مواجهة السلطة، وأن الشعب وليس المجلس العسكرى هو مصدر كل السلطات، أقول لو كان فى مصر خطاب ثقافى نزيه ومستقل لتحدى السائد بشجاعة وفصاحة وقوة، لا تقف أى قوة مهما كانت سطوتها، فى مواجهة سلطته المدعومة بالحق والموقف الأخلاقى الأعلى.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات