عن الثورة المستمرة فى شوارع مصر الآن - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الثورة المستمرة فى شوارع مصر الآن

نشر فى : الإثنين 19 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 19 مارس 2012 - 9:25 ص

فى ٦ مارس، أصدر رجل الأعمال والقيادى فى الحزب الوطنى المنحل محمد أبوالعينين بيانا لأهالى السويس يدافع فيها عن نفسه فى مواجهة العمال المضربين فى شركته: سيراميكا كليوباترا. اتهم أبوالعينين، من أسماهم بأصحاب المآرب الخاصة بتعطيل التوصل لاتفاق مع العمال داعيا للتصدى للـ«الفئة الباغية حماية لمصانع بلدكم وحماية لأهداف ثورة ٢٥ يناير وحماية لصناعة واقتصاد بلدكم»، غير ناسٍ أن يشير إلى المخطط ضد الاستثمار وضد مصر من أعدائها وأن يؤكد أنه لن يخضع للابتزاز والضغوط. بالطبع تجاهل أهل السويس والعمال المضربون دعوة أبوالعينين. وهاهو يوم السبت الماضى يعلن الخضوع الكامل لكافة مطالب العمال بعد أسبوعين من الإضراب.


وفى الأسابيع التى كان عمال سيراميكا كليوباترا يواجهون خصمهم الذى يمثل سياسيا واقتصاديا كل ماكان يمثله نظام المخلوع، كان الآلاف والآلاف من عمال مصر وموظفيها ومهنييها، ومازالوا، يسلكون نفس الطريق. ضاقت هوامش ومصالح حكام مصر بمطالبهم فى العدالة الاجتماعية، بل ضغطوا عليهم ضغطا بسوء إدارة الاقتصاد، فخرجوا ينتزعون ثورتهم ممن أمموها لحسابهم، وبأيديهم.


فى مصر تجرى الآن مقاومة اجتماعية شعبية حاشدة بلا نصير تقريبا من روافد السياسة. يوشك عمال النقل العام بالقاهرة (مرة أخرى إلا إذا جد جديد فى المفاوضات مع الهيئة) على الإضراب العام الشامل فى كافة الجراجات غدا الثلاثاء بعد إضرابهم الجزئى المتواصل بعيدا عن أعين الإعلام وقلب الجدل العام خلال الأيام الماضية. وتمتد الإضرابات والاحتجاجات من طلاب الطب حديثى التخرج لعمال الموانيء لعمال البريد لموظفى البترول والمياه لعمال أدوية ونسيج. إضرابات واحتجاجات، لم يهتم بحصرها أحد، من أسوار مجلس الشعب المنتخب بعد الثورة إلى جراجات النقل العام إلى الدلتا والإسكندرية والعاشر من رمضان والسويس وحتى فى الصعيد فى أسوان وأسيوط ثم إلى شمال سيناء. ناهيك عن اعتصامات واحتجاجات الطلاب فى الجامعات.


والحقيقة أن هذه المقاومة البطولية، من مصريين عاديين همشهم النظام السابق ويهمشهم نظام مابعد الثورة، متواصلة بلا انقطاع منذ فبراير ٢٠١١، بمعدل قدره الباحثون بمتوسط ٨٥ ألف مضرب ومعتصم شهريا. لكن الخط البيانى يشهد طفرة فى مارس كما شهد ذروته فى سبتمبر الماضى بعدد تم تقديره ب٧٥٠ ألف مضرب ومعتصم ومتظاهر.


 السياسيون ينظرون إلى الناحية الأخرى


يلفت النظر أنه فى مواجهة هذه التحركات الجماهيرية الحاشدة، هناك صمت كامل من كافة عناصر النظام السياسى المؤقت الذى أعقب الثورة. السلطة الحاكمة تتعامل معها حالة بحالة وباستنفاد كافة وسائل الضغط: أمنية وغيرها، وبلا جلبة بقدر المستطاع. أما الأحزاب، فغالبيتها العظمى لم تعلن تأييدها ولا حتى رفضها لما يحدث، ونفس الشيء يصدق على البرلمان الذى تعامل مع العمال المعتصمين أمامه فقط عندما حاول ضابط أمن دولة تحريضهم على اقتحامه. ولا ترى فى خطاب المرشحين لرئاسة الجمهورية مكانا يليق بحجم هذه التحركات لا إيجابا ولا سلبا. أما الثوار وتنظيماتهم الشبابية، فأغلبهم ومعظمها، ليسوا استثناء من هذا التجاهل، بل ويغرق بعضهم فى جب الاكتئاب المرضى للثورة «التى انهزمت أو سرقت»، فتغفل بصيرتهم عن رؤية من يفعلون شيئا لاستكمالها.


هناك أسباب عديدة لهذا. أولها بالطبع أن مصالح جزء كبير ممن يسيطرون على نظامنا السياسى بمفرداته جميعها معادون للمصالح الجديدة التى يقاتل العمال والموظفون والمهنيون من أجل فرضها فرضا. كلما خطا هؤلاء خطوة فى اتجاه الحقوق التى يطالب بها الشارع، وجدوا أنهم غير قادرين على تقديم ولو تضحية صغيرة بما فى أيديهم، فتوقفوا حتى قبل أن يتحركوا.


لكن المشكلة الأخطر، هى أن أغلبية كاسحة من كافة قوى السياسة ما بعد الثورة، رجعية كانت أم ثورية، تحتقر وتقلل من شأن العمل الجماهيرى من أجل المطالب الاقتصادية. ولا يسرى هذا فقط على من يصرون على تسميتها زورا بـ«بمطالب فئوية»، وإنما أيضا على ثوريين مستعدين لتقديم حياتهم كى تحقق ثورتنا أهدافها.


المعضلة هى أن الحركة الجماهيرية الواسعة لا تسير وفق مخطط محدد سلفا، وأن الثورات تتبع مسارات متعرجة ومتداخلة. وإلا كيف نفهم الإعداد الثورى المتأنى الذى قامت به احتجاجات العمال منذ ٢٠٠٥ للثورة السياسية فى يناير؟ أو ننسى أن تمزيق صور مبارك تم لأول مرة بأيدى عمال المحلة؟ وكيف نتجاهل حقيقة أنه لا يمكن الفصل بين ماهو سياسى يتعلق بالكرامة والحريات وماهو اقتصادى يتعلق بالكسب والفقر والبطالة فى دوافع ملايين الثائرين فى ميادين مصر للانتفاض لاسقاط النظام؟


ويثبت تاريخ الثورات على مدى القرن العشرين والانتفاضات فيما مر من الحادى والعشرين، أن النضال الشعبى الجماهيرى من أجل لقمة العيش ليس أقل أهمية ولا أدنى مرتبة من النضال من أجل الحريات وحقوق المواطنة والديمقراطية السياسية. وليس هناك ما يقول إن هناك ترتيبا زمنيا واجبا لهما. وبحسب الباحثة البريطانية المتخصصة فى الحركة العمالية آن أليكسندر فى دراسة لها العام الماضى عن الجوانب الاجتماعية لثورة مصر، فإن الثورات ليست أبنية يرص فيها السياسيون الثوريون دورا فوق دور بشكل منمق ووفق تخطيط محكم. تنطلق آن أليكسندر فى رؤيتها لثورة مصر من تصور يقول إن نجاح الثورة الاجتماعية مرتبط بطبيعة النظام السياسى فى ظل الرأسمالية ونابع من تركيبته. وهكذا فإنها لابد وأن تتحرك أفقيا  إلى قلب عملية الاستغلال والافقار والتهميش فى مجال الهيمنة الاقتصادية لمواجهتها وتغييرها، وإلى أعلى إلى جهاز الدولة القمعى بتجلياته السياسية. وفى هذا فإن كل ثورة تتبع مساراتها الخاصة.


فى الحالة المصرية أدى انكسار النظام السياسى القديم للرأسمالية لتحويل مجرى الحركة الاجتماعية مرة أخرى إلى مجال تحدى الهيمنة الاقتصادية للحكم، وهو مجال مازالت هيمنة القوى القديمة فيه متمكنة.


ولا شك أنه لا يمكن فهم التعثر فى عملية إصلاح السياسة الحادث الان إلا إذا رأينا كيف تستند القوى القديمة على منصة الهيمنة تلك فى الاقتصاد لتنظيم صفوفها وشن الهجمات المضادة التى تزداد قوة يوما بعد يوم. وفقط إذا نظمت قوى الثورة صفوفها لكسر الهيمنة الاقتصادية جنبا إلى جنب مع نضالها السياسى ستكون هناك فرصة لانتصار هذه الثورة.


المطالب مرة أخرى


ما الذى حققه عمال سيراميكا كليوباترا من إضرابهم الناجح؟  بدل وردية ١٠ جنيه للوردية الثانية، و١٥ للثالثة، صرف بدل مخاطر، شهران من الأجر الأساسى أرباح عن الخمس سنوات السابقة التى لم يتم صرف أى أرباح عنها، إلغاء الجزاءات الموقعة على قيادات العمال، إعداد لائحة نظام أساسى، وصرف مكافأة نهاية الخدمة بواقع شهر من الأساسى عن كل سنة كما ينص القانون. هذه المطالب، التى انتزعت انتزاعا..هل يمكن وصفها إلا بأنها عادلة (نصفها هو مجرد إعمال للقانون)؟ وهل يمكن وصفها إلا بأنها شاملة تكاد تتطابق مع مطالب ملايين المصريين؟ بهذا المعنى فإنها أيضا سياسية وبامتياز. فقد انتزعت فى مواجهة مصالح قديمة جديدة مازالت راسخة جسد فيها رجل الأعمال محمد أبوالعينين المئات والمئات ممن يماثلونه من زاوية المصلحة الاجتماعية فى أن تتوقف السياسة عند ماهى عليه الآن، وتستمر الأعمال كالمعتاد. هل يمكن خوض معركة كهذه دون أن تتحول لمواجهة مع الأطر السياسية التى تضع هذه المصالح فى حضانتها؟ أى مع دولة المصالح القديمة؟


بل إن مطالب العاملين المضربين بشركة مياه الإسكندرية أوضح ما يكون فى أن السياسة والاقتصاد لا يفترقان: فلافتاتهم خلال احتجاج أمس الأول السبت كانت تقول: مطالبنا شرعية، فين حقوقنا، لا لفلول الحزب الوطنى جنبا إلى جنب مع مطالب زيادة حافز الإنتاج وتوحيد حافز التحصيل.


على حسابها بموقع تويتر قبل يومين، كتبت الصديقة د.ريم سعد، الاستاذة بالجامعة الأمريكية الحاصلة على الدكتوراه من جامعة أكسفورد فى الانثربولوجيا الاجتماعية، تقول إن «احتلال الميكروباص والباعة الجائلين للشوارع فوضى نعم..لكنه رسالة أيضا من الهامش: نحن هنا ولن نظل فى الهامش». لقد علمت  الثورة الناس أنهم قادرون على صناعة تاريخ لأنفسهم، وهاهم يكملون الطريق ليتصدروا وحدهم مسيرة الحرية.

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات