العقاب - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 6:36 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العقاب

نشر فى : السبت 18 أغسطس 2012 - 9:15 ص | آخر تحديث : السبت 18 أغسطس 2012 - 9:15 ص

تناقلت وسائل الإعلام عن أحد المحللين الرياضيين، تلك الوسيلة المبتكرة التى استخدمتها الصين لمعاقبة لاعبيها المخفقين فى الأوليمبياد، حيث وضعت شاشات عرض كبيرة فى منطقة سكن كل لاعب ولاعبة ليتحلق الجيران حولها أثناء المباريات، فإذا نال المتبارى الميدالية المنشودة، كان نصيب عائلته التكريم والاحتفاء، أما إذا فشل، نُبِذَت العائلة بأكملها، وتجنب الجميع التعامل معها. نوع من العقوبات الفريدة التى تستخدم فيها الدولة المواطنين، لمواجهة ومحاسبة بعضهم البعض، تجربة قد تستحق الدراسة والتقييم.

 

•••

 

يمثل العقاب فكرة قديمة الوجود، ظهرت قبل أن توجد الأنظمة الاجتماعية المستقرة، اعتقد الإنسان الأول أن الزلازل والبراكين والفيضانات التى تروعه، ما هى إلا عقاب له على خطاياه، وقد ظل هذا الاعتقاد عالقا فى الأذهان لقرون طويلة، ولازلنا حتى اللحظة نصف تقلبات الطبيعة بأنها «غضب»، رغم أننا عرفنا يقينا أنها ليست بغضب ولا عقاب، وأن الطبيعة ــ على عكس الناس ــ تُعَبِّرُ فقط عن نفسها؛ لا تتعمد أو تُخَطِّطُ، ولا تدبر أو تتآمر، وحين تُعَاقِب فإنها لا تختار من تعاقبه، وهى كذلك لا تعرف معنى الانتقام. تلخصت الوسيلة التى اهتدى إليها الناس لتجنب هذا العقاب العنيف غير المبرر، فى التودد، والتوسل، وتقديم القرابين، لعلَّ قوى الطبيعة ترفع عنهم سخطها وأذاها.

 

أدركنا فى الصغر أن للأهل حق العقاب، وللمعلم فى المدرسة، ولصاحب العمل، وللسلطة بأوجهها المختلفة الحق ذاته، رغم ذلك لم يذكر أحد حدود العقاب ومعاييره، ما يمكن قبوله وما ينبغى الوقوف أمامه. تختبر غالبية الناس صورا متنوعة من العقاب سواء كان مباشرا أو غير مباشر، وفى الفترة الحالية على وجه التحديد، أصبحت فكرة العقاب أكثر بروزا لدى الجميع؛ الدولة تعاقب والجماعات الدينية تعاقب، والناس كذلك. تعاقب الحكومة المواطنين على أشياء ربما تتحمل هى القسم الأكبر من المسئولية عنها، تعاقبهم على استهلاكهم المتزايد للكهرباء والمياه، فتقطعهما عمدا وسط حرارة يصعب احتمالها، تحت عنوان «الترشيد»، ويعاقبها المواطنون بالامتناع عن دفع قيمة الفواتير وبقطع الطرق، تُعَاقِب الأحياء جامعى القمامة المتقاعسين عن أداء عملهم بالتعاقد مع شركات أجنبية، فيرد جامعوا القمامة بإلقاء مزيد من المخلفات فى الشوارع، ويعاقب المتشددون دينيا كل من يخالفهم فى أسلوب الحياة قتلا وتشويها، وقد يأتى الرد عما قريب، مماثلا لما قامت به النساء السعوديات الثلاث، اللاتى ضربن عضوا بهيئة الأمر بالمعروف، ومزقن ملابسه حين اعترض على مظهرهن.

 

•••

 

 تعددت صور العقاب التى نمارسها بأنفسنا، والتى نتعرض لها دون طائل، كما أصبحت عمليات الانتقام سريعة، لا تعترف بحدود؛ عائلات دهشور المسيحية عوقبت بترك بيوتها بسبب جريمة فردية قام بها مسيحى واحد، وأهالى منطقة رملة بولاق بأكملها تحاصرهم الشرطة فى منازلهم، وبينهم مصابون بطلقات رصاص لا يتلقون علاجا، عقابا لهم على أحداث يدرك الكثيرون أن الدولة تتحمل جزء كبيرا من وزرها؛ أما بدو سيناء ورفح، فهم مهملون منذ عقود، متروكون للفقر ومستبعدون من مشاريع التنمية والتطوير، ومعاقبون ومستباحون دائما حال وقوع عمليات تفجير أو قتل يقوم بها متطرفون، يُعتَقَلُ البدو ويتعرضون للتعذيب، ويقضى بعضهم نحبه بيد أجهزة الدولة التى ترفع شعار «القضاء على بؤر الإرهاب»، ولا تُعَالَجُ أسباب المشكلة، فتتكرر فى غضون سنوات. يأتى العقاب قبل الفهم والانتقام بدلا من البحث عن حل.

 

•••

 

ترى هل تتودد الجماعات المقهورة إلى السلطة وتقدم لها القرابين، حتى ترفع عنها أذاها وعقابها؟ لا يبدو هذا ممكنا فى اللحظة التاريخية الحالية، فقد تغير الوعى الجمعى تغيرا كبيرا، وصار الناس أكثر فطنة وإقداما، كما أن حملات العقاب التى يجرى تنفيذها تشوبها كثير من علامات الاستفهام، فهى لا تخضع لمعايير موضوعية، ولا تساوى بين الناس، ولا تتناسب مع الأزمات الناشبة ولا تحتويها، العقاب الحالى متجاوز للمنطق والحدود، تغيب عنه الضوابط، وتدفع فظاظته وحِدَّته الناس لعدم الاكتراث به، بل وتحديه ومواجهته، بالمثل، أو بما هو أقسى، وأشد عنفا وعنادا. 

 

لا يخفى عن أحد أن الهدف من توقيع العقاب يكون فى بعض الأحيان هو الردع، أن يخشى الفرد من نتيجة فعله فيمتنع عن تكراره ويمتنع الآخرون كذلك، وفى أحيان أخرى تحقيق العدالة لمن أصابه ضرر، حبس القاتل مثلا قد يريح ضحيته حتى مع غياب القدرة على استرجاع ما فُقِدَ. أيضا قد يصبح العقاب وسيلة لتعديل السلوك وتقويمه، عقاب الطفل فى المدرسة أو البيت، ينبهه إلى أن ثمة تصرفات وأفعالا غير مقبولة من المحيطين به، فيبدأ فى تجنبها، وفى كل تلك الأحوال تثبت الدراسات أن المبالغة فى توقيع أية عقوبة، لا تتناسب طرديا مع حجم الردع الذى تخلفه، إنما هى وسيلة للسيطرة الوقتية التى تنهار تلقائيا، وتستدعى تبعات جديدة ربما تكون أشد قوة. 

 

•••

 

حين تُعَاقِب الدولة، لا يفترض المرء أنها تخضع لمشاعر وانفعالات وأهواء، بل إنها تطبق القانون وتحرص على تنفيذه، وأنها تدرك بدقة مغزى تصرفها ونتائجه، وأنها فى الوقت نفسه لا تنجرف لبريق التباهى بانتصار وهمى، ولا لفكرة الانتقام.

 

على كل حال، لا يحمل العقاب لدينا وزنا كبيرا، فالغالبية العظمى من الناس معاقبة مجازا طيلة الوقت، الحياة ذاتها وسط تلال متراكمة من الألغاز والتكهنات والغموض، ومع كل هذا القدر من التوتر والترقب، إنما هى بمثابة عقاب مستمر، يذكرنا بأن ثمة عملا ناقصا ينبغى علينا إتمامه.

 

 

 

 

 

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات