ترامب.. كلينتون.. ترامب.. كلينتون.. فى كل يوم تشير استطلاعات الرأى إلى احتمالات جديدة ومختلفة، فلم يمض على مقالى الأخير أكثر من أسبوعين، حينما اعتقدت أننى حسمت فيه الموقف لصالح كلينتون، مرشح الحزب الديمقراطى، وتعاظم احتمالات فوزها فى الانتخابات، حيث كانت جميع الشواهد تلوح بفوز مؤكد لكلينتون، نظرا إلى الفجوة الواسعة التى كانت بينها وبين غريمها اللدود ترامب، مرشح الحزب الجمهورى. فضلا عن تحول الكثيرين من الحزب الجمهورى ضد ترامب، وقيام خمسين من كبار رجال ومسئولى الحزب الذين عملوا فى إدارات مختلفة بدءا من نيكسون إلى بوش الابن، بنشر رسالة نصها أنهم لن يقوموا بالتصويت لصالح مرشح حزبهم دونالد ترامب، معللين ذلك بأن الرئيس يجب أن يكون منضبطا وقادرا على السيطرة على مشاعره، وأن تكون تصرفاته لائقة ومتأنية، وهم يرون أن ترامب يفتقر إلى جميع هذه الصفات.
وها نحن اليوم نراجع موقفنا مرة أخرى، ونقف حائرين أمام الانتخابات الأمريكية، وما تأتى لنا به يوميا من مفاجآت غير معهودة فى مثيلاتها من الانتخابات فى العقود السابقة. فها هى الفجوة تتقلص ويلحق ترامب بمنافسته، غير أن المفاجأة ليست فقط فى لحاق ترامب بكلينتون فى استطلاعات الرأى، بل التفوق عليها فى أكثر من ولاية، تُعرف باسم الولايات المتأرجحة، وهى تلك الولايات التى لم تحسم تصويتها بعد، ومن ثم تصبح قوة جذب أساسية سواء للمرشح الديمقراطى أو الجمهورى، إلا أن المفاجأة الحقيقية هى ما بدأ التلميح إليه عن بديل لكلينتون لخوض انتخابات الرئاسة الأمريكية. وتتردد بالفعل أسماء جو بايدن نائب الرئيس الأمريكى الحالى أو تيم كاين النائب الذى اختارته كلينتون نفسها، ليخوض معها الانتخابات العامة، بما يمكننا الجزم أن الانتخابات الباقى عليها أقل من شهرين من الزمن ما زالت تخفى ورائها مفاجآت كثيرة.
***
فإصابة كلينتون بنزلة شعبية حادة، بما تفرضه عليها من وقف حملتها الانتخابية لبعض الوقت، إلى جانب ما يبدو عليه من أن الحزب الديمقراطى بدأ يسأم أكاذيب كلينتون المتواصلة وأكاذيب حملتها، سواء بالنسبة لحالتها الصحية أو لمصير مكاتباتها الإلكترونية أو العلاقة المريبة أثناء توليها منصب وزير الخارجية فى إدارة أوباما السابقة والعمل لصالح مؤسسة زوجها وابنتها فى جمع التبرعات والهدايا. كل هذه الفضائح لا شك لها تأثيرها السلبى على حملة كلينتون الانتخابية، وتعمل على تصعيد مشاعر عدم الثقة لدى الناخب الأمريكى. وتطرح التساؤلات لماذا قامت كلينتون بتدمير أكثر من نصف دستة محمول لإخفاء الأدلة حول المكاتبات التى تبادلتها فى بريدها الخاص أو تلك التى تم تبادلها بين مؤسسة زوجها الخيرية وكبار الموظفين فيها ومسئولين من وزارة الخارجية فى عهد كلينتون. كما يتساءل الكثيرون عن السبب الذى حدا بزوجها التصريح أنه إذا تولت زوجته الرئاسة الأمريكية، فسوف يتنحى من منصبه كرئيس للمؤسسة، وسوف تمتنع مؤسسة كلينتون عن تلقى تبرعات خارجية سواء من الحكومات الأجنبية أو رجال الأعمال. وبدأت تعلو الأصوات أنه على الرغم من الخبرة الواسعة التى تتمتع بها كلينتون، فهى فى النهاية شخصية فاسدة تتعامل وكأنها فوق القانون، وتؤمن أنه لا يمكن المساس بها أو بعائلتها. ومن العجيب أن توالى هذه الفضائح والتشهير بشخصية هيلارى كلينتون، تجعل فضائح زوجها النسائية تتضاءل أمام هذه الفضائح، وأصبح ترامب فى غنى حتى عن التذكير بها.
وذلك فى وقت نشهد فيه تحولا واضحا فى طريقة تعامل ترامب مع ناخبيه والوقوف بوقار أمام الجموع التى يتحدث لها بشكل شبه يومى والتصرف بحكمة وعدم الخروج عن النصوص المكتوبة له ولم يعد يتفوه بتعبيرات غير لائقة، فترامب أصبح يتعامل بشكل رئاسى، مثلما سبق أن طالبته زوجته ميلانى به أثناء الانتخابات الأولية، وإثبات أنه قادر على التصرف كرئيس للولايات المتحدة أو على نحو ما تطلق عليه وسائل الإعلام رئيس العالم الحر. واكتسب ترامب مزيدا من الشعبية أخيرا من خلال المقابلة التى أجراها مع رئيس المكسيك وعودته ليؤكد عدم زحزحته عن رأيه بالنسبة لبناء الجدار على الحدود مع المكسيك وجعل الأخيرة تتحمل تكلفته بغض النظر عما إذا كان تناول ترامب والرئيس المكسيكى هذا الموضوع فى مشاوراتهما من عدمه.
***
بيد أن ما قامت به كلينتون، قبل انسحابها لدواعى مرضها، من تسمية أكثر من نصف ناخبى ترامب بأنهم ثلة من البؤساء والمأسوف عليهم وأنهم لا يعدون أن يكونوا من المتعصبين الأغبياء والمتطرفين، أساء إليها كثيرا، على اعتبار أنها بمثل هذا التصريح أثبتت أنها غير قادرة على أن تكون رئيسا لكل الشعب الأمريكى، بل تعمل على ترسيخ التفرقة بين الشعب الأمريكى وتعمق الفجوة بينه. واستخدم ترامب هذا التصريح بنجاح شديد، مما دفع بكلينتون إلى الحائط، أو كما نقول بلغتنا الدارجة أعادها إلى خانة اليك، وطالبها بالاعتذار العلنى لإهانتها فئة شعب كادحة كل ما تبغيه هو ضمان أمنها وأمن عائلاتها من خلال ما تطالب به من حماية حدودها ومنع تسلل الإرهابيين إلى بلادها. فإنه لا يمكن تسمية مثل هذه الفئة بالمتعصبين أو الأغبياء المتطرفين، بل إنها فئة حريصة على الدفاع عن أمن وسلامة الولايات المتحدة.
وإذا ما ألقينا بنظرة محايدة إلى هذه الانتخابات وما تأتى به إلى السطح يوما بعد آخر، فلا شك أننا نقف جميعا حائرين أمام هذين المرشحين وكيف يمكن لأى منهما أن يمثل جموع الشعب الأمريكى الذى أصبح منقسما على نفسه، وهو ما يعززه مرشحو الحزبين من خلال ما يقومان به كل من جانبه بتوجيه أبشع أنواع الإهانة إلى مؤيدى المرشح الآخر. فإن ترامب هو الآخر ليس معصوما من الخطأ بل كثيرا ما تجاوز حدود اللياقة فى التعامل مع ناخبى المرشح الآخر، فمما لا شك فيه أن الشعب الأمريكى يستحق قدرا أكبر من الاحترام والتقدير من قبل من سينتخبه رئيسا له.
***
وتظهر استطلاعات الرأى من الناخبين المترددين – وهم كثيرون – أنهم لا يثقون بكلا المرشحين وأنهم يؤثرون عدم الإدلاء بصوتهم فى انتخابات هذا العام. وعلى كل من كلينتون وترامب أن يبذل مزيدا من الجهد وأن يكون أكثر شفافية وصدقا ويتفادى أخطاء الماضى إذا ما أراد فعلا أن تظهر الانتخابات الأمريكية بمظهر لائق يستحق رئيسها لقب رئيس العالم الحر. وعلى الاثنين أن يثبتا أنهما قادران على التحرك إلى الوسط سواء فى تعاملهما مع المشكلات الداخلية أو فى سياساتهما الخارجية. وما سوف يحسم الأمر هى المناظرات الثلاث بينهما والتى نتوقع منها الكثير بالنسبة لتناول المسائل بشكل موضوعى وصريح، وأن ينجح كلاهما فى ضبط النفس والتصرف مع الشعب الأمريكى والعالم الخارجى بشكل رئاسى. وتبدأ أولى هذه المناظرات فى 26 الحالى التى نعلق عليها جميعا الكثير فى ظل انتخابات صعبة وتبدو متساوية فى إخفاقاتها.