هل تؤمن أننا في عصرالتخصص؟ هل تظن أنه نظرا لكثرة العلوم وتعقيداتها لن يستطيع أى شخص أن يلم إلماما كاملا بعدة أفرع مثلما نجد في التاريخ القديم، والوسيط من يكون عالما في الرياضيات والفلسفة والطب؟ أعتقد أن إجابتك ستكون بالنفى على السؤال الثانى وغالبا بالإيجاب على الأول، ولكن.. لنأخذ مثالا قبل أن نتطرق لشخصيتنا اليوم: هلى سمعت عن الأمريكى هربرت سايمون (Herbert Simon)؟ هذا الرجل حاصل على جائزة تيورينج (أرفع الجوائز العلمية في مجال الكمبيوتر) وحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد وحاصل على الدكتوراه الفخرية في القانون من جامعة هارفارد والدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية من جامعة بافيا الإيطالية، هذا الرجل توفي عام 2001 عن عمر يناهز 84 عاما.. هل مازلت تعتقد أنه لا بدَّ من التخصص كى نصل إلى قمة أى علم في عصرنا الحديث؟
إلى شخصيتنا اليوم..
الدكتور أحمد زكى محمد حسين عاكف والمعروف باسم الدكتور أحمد زكى، ولد في السويس عام 1894، وبدأ بالكتّاب كأغلب أبناء جيله، ثم حصل على الابتدائية والثانوية (كان نظام التعليم آنذاك ابتدائي وثانوى فقط) من القاهرة ليلتحق بعدها بمدرسة المعلمين العليا.. حتى هنا فكل شيء طبيعى. التحق الشاب أحمد زكى بمدرسة السعيدية كمدرس، ليجد نفسه في الشارع بعد شهر نتيجة لحالة التقشف التي انتهجتها الحكومة وقامت بإلغاء التعيينات بعد قيام الحرب العالمية الأولى، ولكن سرعان ما التحق أحمد أفندى زكى كناظر (في الرابعة والعشرين من العمر!) لمدرسة ثانوية ألمانية خاصة (كان يملكها والد يوسف وهبى)، لنا هنا أول وقفة: ناظر في الرابعة والعشرين منصب كبير ولا يتركه عادة من يرغب في أبهة المناصب إلا إلى منصب أعلى، ولكن طموح أحمد زكى كان أكبر من ذلك بكثير.. إنه الطموح العلمي الذي لا يعلوه منصب.
سافر أحمد زكى على نفقته إلى جامعة ناتنجهام ولكنه انتقل إلى جامعة ليفربول عندما ألحقته الدولة ببعثتها الرسمية، ومن هذه الجامعة حصل على دكتوراه الفلسفة في الكيمياء العضوية سنة 1934 ثم عاد وحصل من جامعة لندن على دكتوراه العلوم، وهو ثانى إثنين في الشرق الأوسط آنذاك اللذان حصلا على تلك الشهادة الرفيعة (الآخر هو الدكتور على مصطفى مشرفة).
هذا عن الشهادات العلمية والأبحاث العلمية القيمة، فأنت لا تحصل على شهادة دكتوراه العلوم إلا بأبحاث قوية وقيمة للغاية، عندما تحصل على الدكتوراه فأنت مطالب بإحدى ثلاث (على الأقل): الأولى التدريس لتنقل علمك للأجيال التى تأتى بعدك، والثانية تنقل خبرتك للصناعة، والثالثة البحث العلمى والاستمرار فى نشر الأبحاث.. لنر ماذا فعل الدكتور أحمد زكى.
بالنسبة للتدريس فعالمنا كان أول أستاذ مصرى للكيمياء فى كلية العلوم جامعة القاهرة، ولتصل لهذا المنصب لابد لك من نشر أبحاث علمية، ولابد لك من التدريس، فهو بذلك حقق الأولى والثالثة مما أشرنا إليهم، ثم أصبح الدكتور أحمد زكى مديرا لمصلحة الكيمياء (بعد أحداث سياسية مؤسفة كانت سببا فى إبعاده عن عمادة كلية العلوم بعد انتخابه من الأساتذة، وهى أحداث و إن كانت مؤسفة إلا أنها أظهرت المعدن الأصيل للدكتور طه حسين.. و لهذا حديث آخر)، ثم أصبح مديرا لمجلس فؤاد الأول للبحوث العلمية (الذى أصبح فيما بعد المركز القومى للبحوث)، وأنشأ الكثير من المعامل فيه وبذلك حقق الثانية والثالثة (أيضا)، أصبح الدكتور أحمد زكى بعد ذلك مديرا لجامعة القاهرة (لعام واحد) ولكنه يقول أنه لم يستطع أن يحقق ما يتمناه فى هذا المنصب، يقول ذلك فى حديثه الممتع والشيق مع الأستاذ محمود عوض فى كتابه الرائع "شخصيات"، قال فى هذا الحديث "إن الناس عندما تشغل نفسها بالبحث عن مناصب والسعى إلى الوظائف يصبح الجو العلمى مسمما ويصبح التفكير العلمى مستحيلا".. قبل ذلك، وفى عام 1953 عين الدكتور أحمد زكى وزيرا للشئون الاجتماعية.
قد تتساءل لماذا ذكرنا هربرت سايمون فى بداية هذا المقال ولماذا تحدثنا عن التخصص؟ لأن هناك جانب مهم جدا فى الدكتور أحمد زكى لم نتحدث عنه بعد، وهو ثقافته الموسوعية وعلاقته بالأدب، فهو أحد مؤسسي لجنة التأليف والترجمة والنشر ومن كتاب مجلة الرسالة وعضو فى مجمع اللغة العربية ومؤسس وأول رئيس تحرير لمجلة العربى الكويتية، وله الكثير والكثير من المقالات العلمية التى تبهرك بعمقها وجزالة ألفاظها، وأنت تقرأ للدكتور زكى تشعر فى ثنايا هذا العالم بأديب ومثقف موسوعى، هذا التعمق فى عدة أفرع هو ما يعده الدكتور زكى علما، فهو يقول "إنما العلم الذى أعتبره علما هو ذلك الذى لا يؤدى بمن يتخصص فيه إلى العزوف عن سائر أبواب المعرفة".. فندائي هنا إلى شبابنا، تعمق كما شئت فى فرع العلوم الذى تريده ولكن اترك جانبا من الوقت للقراءة فى فروع أخرى من العلوم والتاريخ والفنون والفلسفة والأداب، فالمعرفة البشرية نسيج واحد والعلوم كلها متصلة، وقد تكون قراءتك فى فرع مختلف عن تخصصك سببا فى فكرة مبتكرة فى تخصصك الدقيق، وأنا قد قابلت الكثير من الأساتذة الحاصلين على عدة درجات علمية (دكتوراه فى القانون والطب، أو فى علوم الحاسب والطب مثلاً) ويعرفون بعمق شديد الصلة بين العلوم وكيف يؤثر كل علم فى الآخر، الحديث مع هؤلاء ممتع ومفيد للغاية، وكلما ازدادوا علما ازدادوا تواضعاً.
رحم الله الدكتور أحمد زكى الذى توفى فى القاهرة عام 1975 عن عمر يناهز 81 عاما.