المعركة التى تدور رحاها الآن بين المثقفين ووزير الثقافة، نموذج للمعارك التى كنا فى غنى عنها، ولم يكن لها أى ضرورة فى هذه المرحلة، وهى معركة نموذجية مليئة بجميع الأخطاء الكلاسيكية، والتى بلغ مداها بلاغات للنيابة العامة، بدلا من الحوار الذى يدعو إليه المثقفون ليل نهار، وهى كارثة بكل المقاييس أن يتصدر المشهد الثقافى هذا العراك الذى لا يلوى على شىء سوى المزيد من تجريف وتجريح الحالة الثقافية فى البلاد، ووأد فكرة أهمية المؤسسات الثقافية فى نهضة المجتمع، واعتبارها زوائد يمكن استئصالها، وهذا هو الخطر بعينه.
المعركة انفجرت بمجرد إعلان اسم وزير الثقافة الجديد، فهو تقريبا لا وجود له فى الحالة الثقافية، بل إن أرباب مهنته وصناعته وتخصصه (السينما والمونتاج) لا يعرفونه، وبالتالى سادت حالة من الغضب فى أوساط المثقفين لاختياره، فى ذات اللحظة التى يرون فيها الكثير من الأسماء التى كانت تصلح بالفعل لقيادة المؤسسات الثقافية فى مرحلة ما بعد الثورة، بل وتحديدا كانوا يتمنون وزيرا ثوريا يملك القدرة على تثوير هذا القطاع المهم، الذى بالضرورة يعكس فهم الثورة ويصوغ حالتها ويستطيع تقديم منتجات ثورية، لترسيخ حقيقة ما حدث فى البلاد منذ ٢٥ يناير ٢٠١١.
والوزير الجديد بدوره، لم يخذل المثقفين، فقبل أن يحاول تقديم نفسه للحياة الثقافية، أو إقناع البعض بأنه يستحق ما وصل إليه، تجاوز قيادات وزارته وأعلن عن الإطاحة ببعضها، بدون أى مقدمات أو مبررات، ليكشف عن وجه قبيح توقعه المثقفون، ليبدأ إعلان المواجهة مبكرا، وكأنه كان حريصا على ذلك، لتنفجر فى وجهه جميع الاتهامات التى تؤكد أنه جاء لتنفيذ مخطط بعينه للقضاء على الثقافة والمثقفين، وهو بالطبع مكنهم من ذلك عبر كافة تصريحاته.
فى المقابل، جاء رد الفعل من بعض المثقفين، كارثيا أيضا، تحدثوا عن جرائم أخلاقية، من وجهة نظرهم، قام بها معالى الوزير، وهو ما نعتبره تجاوزا فى حقهم أولا، لأن ذلك بشكل أو بآخر، يندرج تحت باب الحريات الشخصية، التى كان يجب على المثقفين الدفاع عنها وحمايتها، بغض النظر عن شخص مرتكبها أو من قام بفعلها، وذلك تكرار لهجوم ليبراليين على تيار سلفى قام أحد أقطابه بنفس الفعل، ولقى هجوما غير مسبوق بسبب هذه الواقعة، وبصراحة ما كان على المثقفين استخدام مثل هذا النوع من الأسلحة لأنه يتنافى مع ثوابت الحرية التى يدافعون عنها، وهم بالفعل أصحاب معارك كبرى فى مجال الحريات على مدى سنوات طوال فى مواجهة جميع الأنظمة الاستبدادية.
لا أعرف الى متى ستستمر هذه النوعية من المعارك، معارك لا تعرف سوى الهزيمة لجميع الأطراف، معارك بلا انتصارات، ولا أفهم لماذا يحرص الجميع على إدانة الثورة بمثل هذه النوعية من الأفعال، ولماذا يحرصون جميعا على التأكيد بأن اليأس هو النتيجة الحتمية لهذه الصراعات، لماذا لا ينتفض قادة الثقافة ويعملون على مواجهة سياسات الحزب الحاكم، واختياراته، وهى سياسات بالغة الضرر بحياتنا الثقافية والفكرية، بدلا من الهجوم على شخص بأسلحة فاسدة، حتى لو تم اختياره، على أسس ومعايير فاسدة أيضا!